الذي دعاني لكتابة المقال ذلك الحديث الواسع عن مشروعية حكم العقيد القذافي من السياسيين الكبار وحتى من بعض المثقفين بل ومن المحسوبين على التيار الديني، فهناك من قال إن شرعيته قد ضعفت، وهناك من قال تلاشت، وهناك من قال سقطت، حتى الشيخ سلمان العودة الذي يفترض أنه يتحدث من منطلق ديني انساق مع المنساقين فقال ما معناه إن شرعيته ضعفت كثيراً، أو قال تدهورت، ولا أدري كيف فهم هؤلاء أن للعقيد القذافي شرعية في الأصل، عدا (شرعية) الانقلاب وقوة البندقية والدبابة، وخاصة أنه يقول بمناسبة وبلا مناسبة إنه ليس رئيساً ولكنه ملك ملوك أفريقيا، فإذا كان له شرعية فهي على ملوك أفريقيا إن اعترفوا بهذه الشرعية.

منذ أكثر من عشرين عاماً عندما كان العقيد القذافي مازال في مرحلة (السكرة) بتأثير عبارة جمال عبدالناصر الذي قال له إنه يرى فيه شبابه، وعندما كان قد انتهى من تأليف كتابه الأخضر الذي اعتبره وقتها هو قرآن الثورة والثوار.. آنذاك كنت مسؤولاً عن بعض المكتبات الجامعية، وكنا نشتري الكتب من الناشرين المصريين واللبنانيين، ونتفاجأ حين تصل بأن معها داخل الكراتين نسخاً من الكتاب الأخضر.

كان العقيد القذافي يعتبر كتابه الأخضر هو منقذ الشعوب المضطهدة (مع أنه كان ولايزال هو أكبر مضطهد لشعب في التاريخ) وكان لهذا يدفع مبالغ لأولئك الناشرين كي يقوموا بتمرير كتابه (النفيس) إلى العالم العربي بهذه الطريقة، لأنه لم يكن أحد آنذاك يرى أن كتابه يستحق أي قيمة، ولهذا يضطر للدفع للناشرين أولاً تكلفة طباعته وثانياً تكلفة توزيعه بهذه الطريقة المجانية.

كان يرى أن كتابه سيحول الشعوب الخليجية وغيرها غير الثورية إلى ثورية، فتثور على حكامها، وتتقدم طائعة شاكرة مختارة لفخامته ليشكل منها عقد الوحدة التي بح صوته وهو يدعو لها ليكون هو زعيمها العظيم الأوحد، والذي حصل بعد كل هذه السنين الأربعين هو العكس، فالشعوب الثورية ثارت على حكامها الثوريين، وكان العقيد القذافي هو أحد ضحاياها.

لقد شاهد العقيد القذافي بالتأكيد كما شاهد العالم أجمع كيف تآزر الشباب الليبي على دفع تلك التماثيل الخاصة بالكتاب الأخضر فحطمها ورماها في الأرض ثم حطم ومزق تماثيل وصور القذافي نفسه بتلك الطريقة الغاضبة الكارهة، ولذلك فعندما أراد فخامة العقيد أن يقنع شباب مدينة الزاوية الثائرين عليه مثل غيرهم من شباب ليبيا لم يلجأ لنصوص الكتاب الأخضر كما كان يفعل على مدار عشرات السنين الماضية وإنما لجأ لنصوص القرآن الكريم.. ياللعجب، فطالبهم بإطاعة ولي الأمر الذي هو شخصه امتثالاً للآية الكريمة "وأطيعوا الله ورسوله وأولي الأمر منكم".. كما قال.. أي أنه أصبح شيخاً قانتاً بعد أن كان.. لا أدري ماذا أقول.

طيب.. لا بأس.. طاعة ولي الأمر واجبة يا شيخ معمر ولكن إذا توفرت الشرعية لولي الأمر، وطالما أنك تستند إلى الدين فلابد أن نسألك عن شرعيتك الدينية..

الزعيم معمر ملك ملوك أفريقيا، صاحب الكتاب الأخضر، أصبح الآن هو الشيخ معمر وإمام المسلمين الذي يمتثل للقرآن الكريم ويعتبره هو دستوره بدلاً من الكتاب الأخضر ويحتكم لنصوصه في مواجهة الذين ثاروا عليه ويطالبهم بالامتثال لأمر الخالق ليطيعوه باعتباره ولي أمرهم..!!

القذافي الذي ركب على ظهر دبابة واستولى على السلطة بالقوة وزجّ بكل من عارضه بل وكل من لم يسبح بحمده في السجون، واعتبر انقلابه آنذاك ثورة.. ها هو الآن يعترض على ثورة الشعب الحقيقية ويعتبرها خروجاً على ولي الأمر!!

ولي الأمر يا شيخ معمر لا يجوز الخروج عليه إذا امتلك الشرعية.. والشرعية هي إجماع المواطنين في الوطن الواحد على اختياره ليكون ولياً لأمرهم، أما إذا لم يتوفر هذا الإجماع وأصبح المطالبون بإنهاء ولايته هم الأكثرية فإن شرعيته تكون قد سقطت.. و(الشيخ) القذافي أصلاً لم تكن له شرعية في أي يوم من الأيام عدا شرعية القوة التي تعتبر الدبابة هي الدستور، ولأن هذا الدستور الذي هو قوة الدبابة قد أسقطه الشعب الليبي الآن فإن (فخامة) الديكتاتور يحاول اللجوء لأحكام القرآن وينصب نفسه شيخاً وولياً لأمر المسلمين.. ياللعجب.. ولكن هذا ليس غريباً.. فهذا منطق الطغاة.. عندما تسقط أدوات اغتصاب السلطة التي ركنوا إليها بفعل إرادة الشعب أو حتى إرادة سلطة ديكتاتورية جديدة يبحثون عن شرعية ويحتكمون لقوانينها.. ولكن هيهات يا فضيلة الشيخ معمر.. فالشرعية الآن بيد الشعب الليبي الذي يعمل على إيجاد الديموقراطية والحرية لينعم بهما مثل أغلب شعوب الأرض.. وسينجح.

هل لاحظتم القذافي وهو فاقد صوابه يصرخ.. ثورة.. ثورة.. مع أن ثورة الشعب قائمة ضده..؟! كيف يستطيع شخص بمستوى عقلية القذافي إدارة دولة وحكم شعب مدة أربعين عاماً..؟! سؤال كبير يحتاج إلى مقالات قادمة.