كتبتُ منذ أسابيع عن كيف أن الشباب العربي قد أصبح، بعد أحداث تونس ومصر، يتكلم بصوت واحد، معبراً عن هوية واحدة ومصير مشترك، للمرة الأولى منذ نحو خمسين عاماً، لكن هذا الكسب الذي حققه الشعور بالمصير العربي المشترك قد أصبح مهدداً في أكثر من مكان في العالم العربي. ولننظر كيف يحاول النظام الليبي، على وجه الخصوص، خلق انقسامات داخل ليبيا نفسها، على أسس قبلية ومناطقية، لوقف ذلك المد، وشرخ الوحدة الوطنية. ورأينا كيف يحاول أن يستغل، أو يصنع، كل وسيلة لخلق الانقسامات في صفوف الشعب. فبعد خروج معظم المناطق الليبية من سيطرة النظام، بدأ بالتهديد بحروب قبلية لوقف الثورة. وكرر ممثلوه عدة مرات الإشارة إلى القبائل، وكونها لا تقبل أن تسيطر واحدة منها على الأخرى، ولمحوا إلى أن الثورة في الحقيقة تدفعها المنافسة القبلية، وحاولوا استنهاض بعض القبائل الموالية تاريخياً لوقف ذلك المد.

وليس سراً أن النظام الليبي قد دخل الآن مرحلة الصراع من أجل البقاء، ولهذا فلا مانع لديه من إحداث انقسامات في لحمة الوطن الواحد، على أمل أن يؤدي ذلك إلى الإبقاء عليه. فقد فوجئ النظام، كغيره، بالسرعة التي انهارت فيها سلطته على شرق ليبيا ووسطها. وكما كتب إليّ أحد الأصدقاء الليبيين يوم الجمعة الماضي (25 فبراير): "لم يكن أحد يتوقع أن ينهار النظام في شرقي ليبيا بهذه السرعة. لقد أثبتت الأحداث أن ذلك النظام كان نمراً من ورق، وحالما أظهر الشعب إرادته وتصميمه، ذاب النظام وأجهزته وجلاوزته، كقالب من الزبدة، بعد أن كنا نظنه صلباً كالفولاذ. وحالما انهار النظام في الشرق، بدأ المواطنون، رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً، بالعمل على سد الفراغ الذي وقع بهروب النظام، بتوفير الخدمات الأساسية، والغذاء والماء والأدوية، حتى والدتي التي قاربت الثمانين، أصرت على الخروج والمساعدة والاحتفال بالوضع الجديد." وفي المقابل كما أسلفتُ، أخرج النظام من جعبته كل ما لديه، من اتهام للقاعدة، والمخدرات، والقوى الأجنبية، بالوقوف وراء الثورة، وهدد بتعبئة القبائل الموالية لمواجهتها. وقد ضرب تهديده بالحروب القبلية على وتر حساس، دفع عدداً من الباحثين العرب والأجانب إلى الكتابة عن خطر القبلية في ليبيا، موضحين كيف شجع النظام الليبي الولاءات القبلية في ليبيا، واستخدم موارد الدولة لشراء ولائها، وإذكاء المنافسة بينها، فضلاً عن تهديد أهل المدن بسطوة قبائل الصحراء، والعكس، وصوّر النظام نفسه على أنه صمام الأمام الذي يستطيع منع التناحر والحروب بين هذه الفئات المختلفة.

ومع أن للقبائل فضلاً لا يُنكر في الحفاظ على تقاليد وتراث العرب وقيمهم، وسلطتهم السياسية والثقافية، خلال حقبة طويلة عانى منها العالم العربي من ضعف سلطة الدولة، وقاسى الحكم الأجنبي، إلا أن النظام القبلي أصبح اليوم سلاحاً ذا حدين. فمع نشأة الدولة الحديثة، يجب أن يكون انتماء المواطن انتماءً مباشراً، والعلاقة مباشرة بين المواطن والدولة، وليس من خلال القبائل، وزعمائها التقليديين. فالانتماء القبلي إنما يأتي على حساب الانتماء للدولة، بل هو نقيض لوحدتها وخطر على مستقبلها، كما نرى ذلك ماثلاً للعيان في ليبيا التي تواجه خطر التقسيم. ولا تنحصر أضرار القبلية في تلك الأبعاد السياسية، بل تتعداها إلى ضرب كفاءة النظام الاقتصادي، فالنظام القبلي يوجد طبقة وسيطة بين القبيلة والدولة لا تقوم على الكفاءة ولا تؤمن بها، بل تربط أفراد القبيلة وزعامتها من خلال علاقات منافع كثيراً ما تقوم على حساب مصلحة الوطن.. وعلى الرغم من الفلكلور الذي يتحدث عن الديموقراطية داخل القبيلة، فليس هناك مساواة في النظام القبلي، في معظم الأحيان، بل يقوم على الولاء الأعمى لرئيس القبيلة.

وقد أدت نشأة الدولة الحديثة في العالم العربي إلى تضاؤل تدريجي في قوة القبائل ونفوذها، وتعزيز خجول للانتماء للدولة الوطنية، بالإضافة إلى الانتماء القومي بشكل أوسع. ولكن ذلك تراجع خلال السنوات الأخيرة، وتعزز الولاء القبلي لأسباب عديدة، ربما كان أهمها لجوء أنظمة كالنظام الليبي إلى توظيف القبلية لمصلحة النظام، عن طريق تفضيل بعض القبائل أو منحها مميزات تجعلها موالية له. وفي الدول التي سمحت بالانتخابات، قام بعض السياسيين بتعزيز الانتماء القبلي لأسباب انتخابية، وأصبح البُعد القبلي مهماً لتحديد نتائج الانتخابات فيها.

لقد أحيت ثورة تونس ومصر الشعور العربي بالمصير المشترك، فهل تؤدي ثورة ليبيا إلى النتيجة العكسية، أي تقسيم الوطن الواحد؟ الجواب في الأسابيع القادمة.