ما بين ظروف الحياة القاسية، واختلاف الأفكار، و سوء الفهم أو التقدير، تتزايد قضايا العنف الأسري بصورة متتالية بين الأفراد، إذ تختلف أساليبها ، وطبائع الأشخاص المتصفين بهذا السلوك، وفي ذات الوقت، الفئة المجتمعية المواجهة لها هذا العنف، والتي تتنوع بين الأبناء، أو النساء، أو الإخوة الأصغر سنا، وصولا للأطفال الصغار، الذين لا يملكون حولا ولا قوة، للذود عن أنفسهم.
كبت المعاناة
"أحباب الله"، الضحية "المفضلة" للشخص العدواني، حيث يبقى الأطفال مأسورين في سياج اللوم والعقاب، لذنب طفولي بريء، أو بدون سبب ما، فقط لنبوة غضب لدى الأب، أو الأم، أو الإخوة، وليس أمام هؤلاء الأطفال سوى البكاء، و إبقاء معاناتهم في دواخلهم، حتى لا يتزايد عليهم عقاب قد وعدوا به، عند الإفصاح .
اكتشاف الحالات
هذه المعاناة المخبأة، قد يكتشفها صدفة أشخاص عديدون، يلتقي بهم هذا الطفل دون تخطيط، في الأروقة التي يتواجد بها، سواء في بيت أحد الأقارب، أو العائلة، أو البقالة، أو من قبل أحد الجيران، وحتى في المدرسة التي يتعلم فيها، حيث تم اكتشاف حال طالبات وطلاب كثر تعرضوا لهذا العنف، كما تروي لـ"الوطن" إحدى المعلمات، حيث تم اكتشاف حالة عنف أسري تعرضت لها إحدى طالبات المرحلة الابتدائية، وكان ذلك من خلال حروق وجدت بيد الطالبة! تقول المعلمة "قمنا بمخاطبة الطالبة، وسؤالها من المتسبب لها بتلك الحروق؟ التزمت الطفلة الصمت في بادئ الأمر، ولكن مع الإصرار ، قالت: أختي ،لأني لم أذاكر ". المدرسة تستمر في سرد القصة، قائلة "لم نصدق ما قالته، لأنه اتضح عليها ملامح الخوف والارتباك، لذا قامت رائدة الفصل بسؤالها، بعد أن وعدتها بأنها لن تخبر أحدا بالحقيقة، إلى أن نطقت تلك الطفلة، بأن زوجة أبيها كانت هي من قام بحرق يديها، و أنها تقوم بتعذيبها مع أخواتها بالمنزل، مع التهديد المستمر لهن بعدم إخبار أي أحد، و إلا فستزيد العقاب والتعذيب". وأشارت المعلمة إلى "المواقف المحزنة التي تراها هي وزميلاتها عندما تقوم الأم التي قد انفصلت عن الأب، بزيارة بناتها بالمدرسة، إذ تنهمر الدموع لفرحة اللقاء والفراق بنفس الوقت، إضافة للحياة الاجتماعية المؤلمة التي تعيشها بناتها مع زوجة أبيهم".
دور المدرسة
ندى القحطاني، تروي حالة صديقة ابنتها، قائلة "تحدثني ابنتي عن حالة صديقتها، فهي دائمة الصمت، والحزن، والتفكير. لا تحب اللعب، أو تبادل الأحاديث، أو الضحك، كأنها في عالم آخر". مضيفة "ذهبت إلى المدرسة لمشاهدة هذه الطفلة، فوجدتها كما وصفتها ابنتي، وأكثر من ذلك، وعندما سألتها عن ظروفها، التزمت الصمت، مع بكاء صحبه نحيب شديد". مثل هذه الحالات برأي شريفة العلي، الموظفة بأحد القطاعات الخاصة، "من المفترض اتخاذ اللازم من قبل كادر التعليم بأكمله تجاهها، سواء إدارات التربية والتعليم، أو إدارات الإشراف التربوي، إضافة لمنسوبات ومنسوبي المدرسة، الذين يقع على عاتقهم المهمة الكبرى، لأنهم من يتعايش مع هكذا حالات". وتعتقد العلي أنه "من الواجب وضع قضية العنف ضد الأطفال، ضمن جدول المهام والخطط، التي من المفترض اتباعها وتنفيذها خلال العام الدراسي، مع سرد لائحة بشتى أنواع العقاب، لأي مدرسة تتستر أو تتهاون لوضع هكذا حالة. إضافة للتعزيز لمن يقوم بكشف عن هذه الحالات، وتسليمها للجهات المختصة".
مسؤولية مشتركة
من جهتها، أوضحت الأستاذ مساعد بقسم علم الاجتماع بـ"جامعة الملك عبد العزيز"، د.فتحية بنت حسين القرشي، أن "وزارة الشؤون الاجتماعية، قامت بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم، بالتعميم على كافة المؤسسات التربوية، بضرورة التبليغ عن حالات العنف التي قد تظهر ملامحها على الطلاب أو الطالبات، لأن استخدام العنف في التربية الأسرية لا يعطل فقط إمكانات التركيز والفهم عند الطلاب، بل يؤدي إلى ارتكابهم لمخالفات وانحرافات، قد لا يعرفون هم سبب ارتكابها، وكأنهم من خلال بعض المشاغبات والانحرافات يقولون بصفة غير مباشرة للمجتمع، أين أنتم عنا وعما يفعله فينا من تولونهم أمورنا". وتعتبر القرشي أن الإبلاغ عن حالات العنف، وكشفها لمعالجتها تاليا "مسؤولية دينية وأخلاقية كبيرة، وواجب وطني عظيم الأهمية، ولا بد من اعتبارها من واجبات المربين، ومعاقبة من يتخلف عن التبليغ عنها بصفة علنية، حتى يرتدع المتهاونون في نصرة الحق".
حقوق الإنسان تتابع
رئيس "الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان"، د.مفلح بن ربيعان القحطاني، أوضح أنه "تم إنشاء تصنيف خاص بقضايا العنف ضد الطفل في عام 1430هـ، لتسليط الضوء بشكل أكبر على العنف الممارس ضد هذه الفئة، بشكل منفصل عن قضايا العنف الأسري"، مضيفا "بلغ إجمالي قضايا العنف ضد الأطفال، في عام 1430هـ، 72 قضية، بنسبة 0.3% من المجموع العام للقضايا البالغة 21016. وزادت نسبة قضايا العنف ضد الأطفال في عام 1431هـ، عن العام الذي سبقه بنسبة 2%، منها 27 قضية إساءة جسدية، و11 قضية إساءة نفسية، و5 قضايا إساءة جنسية، و6 قضايا حرمان الطفل من التعليم، و9 قضايا حرمان الطفل من الأوراق الثبوتية، و6 قضايا حرمان الطفل من رؤية الأم، وقضية واحدة حجز، و5 قضايا إهمال، إضافة لقضيتي زواج أطفال". ويوضح القحطاني أن "إجمالي قضايا العنف الأسري منذ تأسيس الجمعية، وحتى عام 1430هـ، بلغ 1541 قضية، بنسبة 7% من المجموع العام للقضايا البالغ 21016". القحطاني، وفي حقل التوعية بمخاطر العنف، شدد على ضرورة أن تتضمن مناهج التعليم "التحذير من العنف، ودحض جميع الشبهات التي تقول بأن الإسلام يبيحه، أو يجيزه بأي حال من الأحوال، فالتوعية بالعنف الأسري، هي مسؤولية تقع على عاتق الجميع، ابتداءً من المدرسة، ومروراً بالأجهزة المعنية، وانتهاءً بوسائل الإعلام، و مؤسسات المجتمع المدني".
خطر الخدم والسائقين
مديرة التنمية الاجتماعية، ومديرة روضة "الطفل السعيد"، مريم المعلوي، تقول إنه "منذ أن تعلم المرأة أنها حامل ينتابها الفرح، بهذا الحبيب القادم، ولكنه فرح مختلط بمشاعر الخوف، والقلق من مستقبل وحياة هذا الطفل، فالكل يسمع ويقرأ كل يوم ما يجعل الآباء يصيبهم نوع من الهواجس تجاه أطفالهم". مضيفة "من منطلق كوني أما ومربية أجيال، أريد أن أوضح شيئا مهما، وهو دور الأسرة في مراقبة ومتابعة أبنائهم، منذ سن الطفولة، إلى سن الرشد". وترى المعلوي أن الخطر يكمن في الآونة الأخيرة في "الخدم، والسائقين، والبائعين، فالأم تعتمد على الخادمة في كل شيء، وبعض الخادمات لديهن سلوكيات منحرفة، والأب يهمل أبناءه فيوصلهم السائق إلى المدرسة، وقد يتركهم في الشارع، في أيدي البائعين المنحرفين سلوكيا. والبعض منهم قد يغري هذا الصبي ببعض النقود والحلويات، ومن ثم يبدأ في التحرش به. إضافة إلى أنه أثناء الزيارات والمناسبات، قد يحصل ما ليس في الحسبان، فالأطفال الكبار، قد يتحرشون بالصغار في بعض الأحيان، لذا من المفترض أن نكون أكثر رقابة واهتماما بأبنائنا".
لجان فاعلة
وتشير مديرة إدارة التوجيه والإرشاد بجدة، وعضو لجنة "الحماية الاجتماعية" بالمنطقة، حياة المطوع إلى أن "العنف الأسري من أخطر المشكلات التي تهدد المجتمع، لأنه ينتج جيلا تحكمه ثقافة العنف سلوكا و ممارسات، داخل منظومتهم الاجتماعية، بكل ما يحمله من اضطرابات نفسية، تنعكس بشكل ملحوظ على السلوك، وتؤدي بدورها إلى ردود أفعال نفسية واجتماعية وسلوكية"، كاشفة عن تشكيل لجنة "الحماية الاجتماعية"، والتي من خلال تفعيل الشراكة بينها وبين إدارة التربية والتعليم للبنات بمحافظة جدة، تم "اكتشاف وعلاج العديد من حالات العنف الأسري، التي تعاني منها طالباتنا بالمدارس"، حيث تم بحسب المطوع "تشكيل لجنة على مستوى إدارة التربية والتعليم، لمواجهة العنف الأسري والمدرسي الذي تتعرض له الطالبات والموظفات، وإصدار تعميم لجميع المدارس الحكومية والأهلية بالتبليغ السري والعاجل، لمشرفة التوجيه والإرشاد، عن أي حالة عنف يتم اكتشافها، وتكليف طبيبة من الوحدة الصحية بزيارة المدرسة، و إجراء الكشف الطبي على الحالة وإعداد تقرير بذلك، كما يرفع تقرير للجنة الحماية الاجتماعية عن حالة العنف التي تم تبليغ المدرسة عنها"، وبناء على ما سبق، تتخذ الخطوات التالية، وتبدأ بـ"نزول الفريق التنفيذي النسائي من لجنة الحماية إلى المدرسة، لمقابلة الحالة واتخاذ ما يلزم حيالها، وتأمين الحماية اللازمة للحالة المعنفة".
متابعة رسمية
مدير إدارة سجون منطقة "نجران"، العقيد علي بن أحمد الشهري، أشار إلى أن "أسباب تزايد حالات العنف الأسري للأطفال، تقع بسبب ضعف الوازع الديني لدى الآباء والأمهات، وقلة الوعي في المنازل"، داعيا إلى ضرورة "توفير برامج للأسر، وعقد ندوات ومحاضرات دورية على مدار العام، لمناقشة الوسائل الكفيلة بحماية الأطفال من كافة أشكال العنف، وإيجاد مؤسسات حكومية وأهلية تهتم بهذا الموضوع، فتدرجه في المناهج الدراسية والخطط المستقبلية في التعليم العام". الشهري أكد من جهته أن "دور إدارة السجون، هو تسلم الجاني الذي أقدم على تعذيب أطفاله، بعد الحكم عليه بالسجن". معتبرا أن "المشكلات المادية، وصعوبات العمل التي يتعرض لها الأب أو الأم، قد تدفع إلى ممارسة العنف على الأطفال".
تحري الدقة والسرية
وفي سبيل مواجهة "العنف" والحد منه، يوضح المدير العام للتربية والتعليم للبنات بنجران، سالم بن محمد الدوسري، أن إدارته شكلت لجنة لـ"العنف الأسري"، مشددا على "ضرورة ملاحظة الطالبات، وتبليغ مديرة المدرسة شخصيا عند اكتشاف أي حالة عنف أسري، أو مدرسي، قد يتعرضن له. ويرى الدوسري أنه "يجب أن تتولى مرشدة الطالبات في المدرسة، دراسة الحالة دراسة مستوفاة، مع تحري الدقة والحيطة، ومحاولة إيجاد حل للمشكلة داخل المدرسة وفي سرية تامة".
خلافات الوالدين
ويشير المعلمان خالد القحطاني، ومحمد اليامي، إلى أن "خلافات الوالدين ومشاجراتهما، قد تؤثر سلباً في الحياة الزوجية لأبنائهما مستقبلا، حيث إن انتقال الصراع الزوجي من جيل إلى آخر، ينتج عندما لا يتعلم الأبناء مهارات التحدث، وسلوكيات التواصل والتفاهم، بسبب مشاهدتهم ومراقبتهم للخلافات التي تحدث بين آبائهم وأمهاتهم، وكيف يتعاملون بعضهم مع بعض بشكل سلبي"، معتبرين أن "الضرب الجسدي بكل أشكاله، والحبس في غرف مظلمة، وتشغيل الأطفال في أعمال لا تتفق مع قدراتهم العقلية والجسمية، وإهمال تعليم الأطفال، وإهمال الرعاية الطبية، ونقص الاهتمام العاطفي وسوء المعاملة النفسية، أو الإهانة أو المقاطعة عند الكلام، كل ذلك يخلف ويترك أضرارا عديدة على الأسرة، ويحدث فجوة كبيرة، لها سلبيات على الطفل في مستقبله".
سلوك ضعاف النفوس
هذا النقد الساعي للتغيير، وللحد من "العنف"، واصله مدير عام فرع الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بمنطقة نجران، الشيخ صالح بن إبراهيم الدسيماني، الذي يرى أن ممارسة العنف الأسري "تعتبر ظاهرة سيئة وسلوكا خاطئا، يقوم به ناس ضعفاء في النفوس، وليس لهم وازع ديني يربطهم ، وعليهم ضغوطات نفسية"، مستشهدا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليس منا من لم يرحم صغيرنا و يوقر كبيرنا"، موضحا أنه "عادة من يرتكب العنف الأسري، من لديه ضغوطات نفسية، أو تعرض للعنف الأسري في صغره، فيقوم بممارسة ذلك تجاه أطفاله أو أهله".
ظاهرة عالمية
"العنف الأسري في تزايد مستمر"، هذا ما يراه الكاتب حسين آل دويس، الذي يشدد على أن هذا السلوك "يعتبر ظاهرة عالمية، ولكن طرق التعامل مع هذا الأمر تختلف باختلاف الدول، واختلاف قوانينها وأنظمتها"، معتبرا أن الحل يكون من خلال "إيجاد قوانين صارمة، تعاقب بشكل صارم كل من يقوم بمثل هذا التصرف تجاه الأطفال، مهما كانت علاقتهم به، لأنه يجب أن نعي أنه إذا كنا نبحث عن خلق مجتمع صحي خال من الأمراض النفسية والمشاكل الاجتماعية، فإنه يجب علينا الاهتمام بشكل كبير بأجيالنا، لأنها هي من سيبني هذا البلد مستقبلاً".