لا أستطيع تجاوز التفكير في الكتابة هذه الأيام، خارج المسألة الليبية كونها كانت حالة مأساوية طيلة الأسبوع راح ضحيتها الشعب الليبي قتلاً ودماراً مما يؤلم الحس الإنساني الفردي والجمعي، ويجعل الضمير العربي والعالمي تحت المساءلة حين تم السكوت عن رجل مثل القذافي طيلة أربعين عاماً. هذا أولا.
ثانياً: لأن التجربة الليبية كانت تجربة التطرف في الأوهام الديموقراطية المشوّهة في التطبيقات السياسية العربية، لذا فمقاربة الوضع الليبي هو التعبير الأكثر جلاء ووضوحاً في التجارب العربية المشوهة، والتعبير الأفضل للدكتاتورية العربية والتجسيد الأمثل للاستبداد العربي حتى لو كان محاولة لقيام نهضة عربية من خلال مسميات عديدة كالديموقراطية مثلاً.
في العالم العربي كانت الأمور، ومازالت، تحت مشكلة التفسيرات المشوهة حسب من يتبنى صياغة المفاهيم الثقافة والاجتماعية والسياسية، لذلك تخرج الكثير من القضايا بغير صورتها التي صيغت عليها في البداية. العالم العربي عنده القدرة الكبيرة على إعادة إنتاج المفاهيم الخاصة التي يتفق العالم عليها. هناك دائماً خطابات شكلية وخطابات رنانة ليس لها تجسيد على أرض الواقع. هناك أزمة فهم وأزمة تطبيق على حد سواء. دائماً ما كنتُ أكرر، وما أزال، أن الحداثة التي مرت على العالم العربي حداثة شكلية، وينسحب عليها كل المفاهيم التي تلحقها والتي أنتجتها العصور الحديثة.
الديموقراطية أحد أهم المفاهيم الرنانة التي ارتحل مفهومها إلى العام العربي، وتبنتها العديد من الدول العربية كنوع من اللحاق بركب الحضارة. الإشكالية أن كل المفاهيم التي تم استنساخها كانت تتعرض إلى مشكلة كبيرة، وهي ثقل الوضع التاريخ للعالم العربي الذي خرج من وطأة التاريخ فيزيائياً وجسدياً لكنه لم يخرج منه عقلياً ولا شعورياً؛ إذ حتى لو خرج الرجل العربي من إشكاليات تاريخية كثيرة تضرب في عمق المعطى التاريخي إلا أن تمثلاتها لا بد أن توجد في السياقات الخفية، والتي تفضح السلوك الفردي لديه، والذي من الطبيعي أن ينسحب ذلك على السلوك الجمعي، إذ سرعان ما تكون هناك تصرفات تنبئ عن إشكاليات سيكولوجية وسوسيولوجية مثقلة بالوضع التاريخي الذي يضغط على المحرك الذهني والنفسي والاجتماعي لدى المتعاملين مع الشأن العام في البلدان العربية بلا استثناء.
الاستبداد كان أهم منتجات السياسات العربية والإسلامية طيلة التاريخ الإسلامي، ولذلك لم يستطع العربي بحكم الضغط التاريخي تجاوز إشكالياته الكثيرة، وخاصة فيما يتعلق بالشأن السياسي؛ لذلك فإن منتجات الحضارة المعاصرة ومفاهيمها العامة: السياسية منها وغير السياسية تأتي بشكل مشوّه ومنتج بطريقة تبتعد شكلاً ومضموناً عن الأصل الثقافي الذي أُنتِج في وضع ثقافي مختلف جذرياً عن الوضع الثقافي العربي. بالطبع هذا لا يعني أن العالم لعربي ليس مهيأ لاستقبال وتطبيق الديموقراطية الحقيقية على أرض الواقع؛ إنما المسألة في تصوري عائدة إلى نوعية التفسير والتطبيق، وليس إلى ذات الفرد العربي. المهم ألا يختطف الديموقراطية أحد بحيث يصوغها على هواه الشخصي. التمثل المؤسساتي كفيل بإعادة صياغة المفاهيم بشكل جيد بحيث يمكن تطبيقها بمراقبة شعبية. أما أن تبقى الأمور خاضعة للأمزجة الشخصية، فإن هذا سوف يقود إلى نوع من الاستبدادية حتى ولو كانت تحمل أفكاراً تنويرية كما حصل في كافة العالم العربي بلا استثناء لأنها أصبحت بيد أفراد، وليس بيد مؤسسات شعبية منتخبة، لذلك حصل نوع من الاستبداد السياسي غير المعقول في الكثير من الدول حتى أكثرها تنويرية كما حصل في تونس أيام التجربة البورقيبية.
في العالم العربي دائما ما كانت القضايا السياسية والفكرية والاجتماعية نازلة من الأعلى إلى الأسفل؛ أي من رأس الهرم الاجتماعي والفكري إلى قاعدته، ومن هنا كانت التجارب كلها تجارب خاضعة إلى تفسيرات رأس الهرم، وما على الكثير من الناس في قاعدة الهرم غير التطبيق، وفي حال تحرك القاعدة أو فرد من أفرادها لتمثيل قاعدة الهرم الاجتماعي لدى الرأس، فإنه يتم ترحيله لتنقطع صلته عن صلة قاعدة الهرم أو الشارع فيتمثل كل إشكاليات الرأس دون القاعدة التي أتى منها. هنا تتحول المسائل من تمثيل حقوقي إلى مصالح شخصية وربما بطولات شخصية تنفصل نهائيا عن حقوق الشارع ومطالبات الشعب.
المؤسسات الأهلية، واللجان الشعبية كانت شكلا من أشكال العمل المؤسساتي غير الناضج، أي أنها كانت مؤسسات في ظاهرها شعبي لكنها في مضمونها غير شعبية إطلاقا، لأنها جاءت من غير تمثيل شعبي حقوقي ولا انتخابي. جاءت هذه اللجان لتمثل الشعب شكلياً لكنها في أصلها ليست إلا نوعاً من الاستبداد السياسي بالشعب. غالبيتها، إن لم تكن كلها، لم تأتِ عن طريق الانتخابات الحرة والنزيهة وإنما جاءت عن طريق تزوير في حقائق من أحزاب حاكمة أو أحزاب معارضة. وفي أوضاع أخرى جاءت تلك اللجان الشعبية كتمثيل عن قبيلة أو عشيرة، وهذا ليس وضعا ديموقراطياً، إنما هي رؤية أبوية أخرى واستبدادية تتمثل في مصالح فئة دون مصالح عامة يشترك فيها جميع المواطنين. القبيلة ليست حكما مدنيا منتخباً، ولذلك فهي ليست حكماً ديموقرطياً، ولم يأت رأس القبيلة بطريقة ديموقراطية، لذلك فهو خارج المفهوم الديموقراطي للعمل السياسي. أيضا تأتي بعض اللجان الشعبية كتعبير عن فئة أو طائفة ما. هذه الأخرى ليست ديموقراطية لأنها تنظر إلى مصلحة فئوية وطائفية دون الطوائف الأخرى رغم المشتركات الشعبية فيما بينها.
ما ميز الثورتين التونسية والمصرية أنهما كسرتا هذه التمثيلات غير الديموقراطية لتشترك في أساسات يتفق عليها الجميع، ولذلك رأينا كافة الشعب خرج من غير أي شعارات رنانة ولا تمثيلات فئوية أو حزبية، وإذا سلمت هاتان الثورتان من اختطاف أحزاب أو فئات محددة دخلت من باب الديموقراطية لتنقض عليها بطرق ملتوية؛ فإننا أمام عمل غير مسبوق حلله بعض المفكرين السياسيين على أنه عمل لم يحصل في التاريخ العربي مطلقاً.
أكبر تشويه للديموقراطية ما فعله القذافي بالشعب الليبي طيلة أربعين عاماً من حكمه والقائمة العربية تطول؛ لكن يبقى القذافي أكثر تطرفاً في تجسيد الديكتاتورات العربية لأنه تمثلها من غير مواربة، ومن غير تلون سياسي، كونه غير قادر على المراوغة السياسية لأوهام سياسية يتصف بها هذا الشخص جعله فاضحاً لتمثل الديكتاتوريات العربية، وإلا فإن القائمة العربية ليست بأحسن حالا منه من الناحية الديموقراطية.
القذافي يختزل التاريخ العربي كاملا، كما يختزل التجارب العربية كاملة في شخصه، لذلك دائما ما ورط العالم العربي في فضائح عديدة لم يستطع الخروج منها بسهولة وخاصة دول الجوار، ولربما تكررت الشخصية القذافية في عنفها وقمعها للتظاهرات في أكثر من قطر عربي لو كان العالم لا يراقب ما يحصل على الهواء مباشرة لكن وسائل الإعلام الحديثة صنعت ديموقراطيتها التي عجزت عن فهمها الديموقراطيات المشوهة، وضربتها في العمق، وأسقطت العديد منها بأسرع مما كنا نتوقع لهشاشتها.