لدى البعض تصورات وتفسيرات عجيبة للأحداث التي تجري هنا وهناك، وهي تنطلق عادة من حتمية نهاية الحياة التي يؤمن بها كل سكان الكوكب وإن بطرق مختلفة، وبالتأكيد فإن الجمال كل الجمال أن تعرف وأن تثقف نفسك في كل شيء، ولكن بشرط: ألا تتفنن في صياغة سيناريو النهاية بالشكل الذي يتوافق مع هواك ومزاجك، أو مع فيلم (نهاية العالم 2012م) مما لا يطابق الحقائق المعتمدة والثابتة بالنصوص الصحيحة، من حقك أن تحلم برؤية الأمة في أحسن حال وأن ترجو لها تغييراً نحو الأفضل؛ على ألا يعني ذلك نسيان الفرق الكبير بين الأحلام والتوقعات من جهة، وبين المعلومات المؤكدة التي لا تقبل الشك والتدليس من جهة ثانية..

الخوض في الفتن والملاحم والنهايات، ومعركة هرمجدون والمهدي المنتظر، والسفياني الأول والثاني؛ أحاديث تكاد أن تتكرر مع كل حدث مفصلي يجري في العالم العربي، أو مع كل هبوب لرياح التغيير في نظام سياسي ما؛ فعند وقوع أي حدث تتفاجأ بمن يحاول إقناعك أنه مرتبط بنهاية العالم وقيام الساعة، أو يقول لك إن حدثاً هامشياً آخر وقع ولم يلتفت إليه أحد سيعني خروج السفياني أو المهدي المنتظر، ثم يدلل على ذلك ببعض الكتب التي قرأها على الإنترنت، حتى أكاد أجزم أنه منذ سقوط بغداد في التاسع من أبريل عام 2003م وحتى ثورة 25 يناير قُرئت تقريباً كل الكتب التي تتحدث عن معركة (هرمجدون) الفاصلة وتنبؤات (نوستراداموس) الشهيرة، ويتم التعامل معها من قبل البعض كمسلمات لا بد أن يؤخذ بها عند الخوض في سيناريو النهاية، بل ويضعونها في الحسبان عند أي محاولة عاقلة لاستشراف المستقبل، أو حتى محاولة تفسيره وفقاً لما يجري سياسياً على أرض الواقع العربي من تحولات جذرية، وما يدهش حقاً أن هناك أشباه دعاة كثر يتحدثون اليوم باستفاضة مذهلة عن أشراط الساعة، والفتن والملاحم والمهدي المنتظر؛ وكل ذلك خارج السياق الوعظي المعتاد، وكأنهم يقومون باستجابات غير مباشرة لما يردده العامة من تصورات متواضعة للحياة والنهاية والأحداث، مما يخلق فوبيا لا لزوم لها، وخصوصاً لدى الشباب صغار السن الذين يعشقون الغرائب والأسرار، وكل ما يتعلق بالميتافيزيقيا والماورائيات بشكل عام، وبالتأكيد فإن شحن المجتمع بمثل هذه المعلومات المغلوطة يؤدي إلى خلل كبير في طريقة البحث عن المعرفة، واستنفاد القدرات الفكرية فيما لا فائدة منه، بالطبع الحديث عن نهاية العالم مغرٍ جداً لكن الخوض فيه بطرق مبالغ فيها له عواقب وخيمة، فحينما يجزم داعية أو لنقل يتوقع بنسبة كبيرة أن نهاية إسرائيل من الوجود ستكون في السنة الفلانية مثلاً، أو يقول لك بأن الإعجاز العددي أو الرقمي في القرآن الكريم يتحدث عن ذلك بما لا يقبل مجالاً للشك، ثم يرتب لك وقائع ما بعد هذا الزوال من منطلق سياسي أو مذهبي يتوافق مع رؤيته الشخصية البحتة؛ فهذه قراءة أقل ما يقال عنها إنها عاجزة عن الإجابة عن أسئلة محرجة يوجهها العامة للدعاة الذين لا يعرفون شيئاً عن الواقع السياسي وتحولاته الكبرى، ولأنهم لا يعرفون فيجيبون أن كل ما يجري هو من فتن وملاحم آخر الزمان، ويعتقدون أنهم بذلك يتخلصون من ضغط الأسئلة مع أن العكس هو الصحيح.

لا أبالغ حينما أقول إن من أسخف الكتب التي قرأتها في حياتي هما (هرمجدون.. آخر بيان يا أمة الإسلام) و (تنبؤات نوستراداموس) وكذلك الكتب التي تتحدث عن السفياني الأول والثاني.. وذلك لفيض الأكاذيب التي يستطيع حتى طالب الإعدادية أن يكتشف زيفها بنفسه، لكن حينما يقف داعية أمام النشء ويلمح ولو قليلاً إلى ما ورد في هذه الكتب؛ ليس من باب تكذيبها بل من باب الاستئناس بها لخدمة فكرته فتلك هي الكارثة الحقيقية.

أدرك جيداً أن الأمم المهزومة تحاول التعلق بقشة في سعيها للخلاص، وأن حكماءها قد يلجؤون في أحيان كثيرة إلى الدروشة للتخلص من حالات الذهول التي تتبع عادة التغييرات المذهلة؛ لكن ما لا أستطيع أن أفهمه هو: كيف يتورط بعض الدعاة في تزييف كهذا؟!

وكيف يمكن أن تباع مثل هذه الكتب في الأسواق والمطارات في وقت تمنع فيه الكتب الفكرية والجادة من دخول البلد؟ ولا إشكال عندي وربما عند غيري من قراءة تلك الكتب والمرويات التاريخية في سياق المعرفة فقط، لكن أن يتم إسقاط تلك المرويات والتصورات بالمسطرة على الواقع ونشر ذلك بين العامة فذلك خواء عقلي وثقافي لا أستطيع بلعه بسهولة؛ فخلع زين العابدين وتنحي حسني مبارك، وحتى من سيأتي بعدهما من بقية الرفاق لا يعني أننا على أعتاب النهاية، بل يعني أن رياح التغيير تصيبنا ـ كعرب ـ مثلما تصيب غيرنا، وتعني أيضاً أننا لا نزال على قيد الحياة، أو بالأحرى دخلنا للتو إلى الحياة.