مع بدايات عام 2011 شهد العالم العربي حراكاً شعبياً قوياً أسفر عن نجاح ثورتين سلميتين عظيمتين في مصر وتونس. وأصبح واضحاً أننا نعيش في أتون غليان شعبي في العالم حولنا وأننا نشهد أجواء تحولات جديدة في المنطقة العربية يقودها الشباب الذي أيقظ المجتمع من حالة سكون طويلة ساعياً إلى إحداث تغييرات جذرية في علاقة المجتمع المدني مع السلطة وإعادة بناء هذه العلاقة على أسس أخلاقية وقانونية جديدة.

جاءت ثورة الشعب الليبي ضد نظام القذافي في 17 فبراير من هذا العام لتكون مفصلاً تاريخياً يؤرخ لسقوط النظام الشعاراتي الذي أثبت بطلان الادعاءات الجماهيرية التي انتهجها النظام طوال 42 عاماً. في البداية تبلورت الرغبة القوية في بناء نظام مؤسساتي في ليبيا عبر مطلب مجموعة من الشباب على "فيس بوك" بجعل يوم 17 فبراير "يوم غضب"، ثم اتسعت المطالبات لتشمل عدة مدن ليبية. لكن كيف واجه القذافي مطالب شعبه المشروعة؟ الإجابة التي تفرضها الكثير من الصور والقرائن، بل وحتى احتجاج وهجرة العديد من أركان النظام نفسه، هي استخدام الأسلحة النارية من قبل أجهزة جابت الشوارع لتقتل المدنيين، بالإضافة إلى القناصة والمرتزقة الأفارقة الذين استوردهم لقتل شعبه، وكلها أساليب تعكس بشاعة الجرائم التي ارتكبها ضد شعبه. وتتواتر الأخبار رغم شحها أن عدد القتلى كبير بكل المقاييس وبما لا يدع مجالاً للشك في وحشية مفرطة في التعامل بين السلطة والمجتمع.

إن تطور الأحداث في ليبيا إلى منحى جديد يستخدم فيه الجيش والأجهزة الأمنية السلاح ضد المواطن، يفرض علينا اليوم أن نراجع بدقة مفهوم العقد الاجتماعي الذي يربط ما بين الدولة والمجتمع في الدولة المدنية الحديثة، لأننا بدون تقصي طبيعة هذا العقد وفهمها فإننا لا يمكن أن نبني دولة حديثة قائمة على أساس من القانون والأخلاق. ولن يكون سقوط نظام العقيد القذافي في ليبيا إلا تجسيداً عملياً لسقوط الأسس القانونية والأخلاقية للنظام قبل أن يكون سقوطاً للسلطة ذاتها. هذا الأساس القانوني والأخلاقي هو ما يضمنه مصطلح العقد الاجتماعي، والذي هو في مفهومه الكلاسيكي اتّفاق مجموعة من "الأفراد" فيما بينهم لتكوين "مجتمع"، بناءً على قاعدة الفائدة المتبادلة وتجنب الأضرار، مقابل تسليم الفرد لجزء من سيادته لصالح سيادة الجماعة، ممثّلة في السلطة. وفي الدولة الحديثة يعني ذلك أن يتنازل الأفراد عن حقهم في استخدام القوة لصالح الدولة فتصبح الدولة هي الجهة الوحيدة المخولة باستخدام القوة لفرض قوانين العدالة بين أفراد الشعب، وذلك لرفع وتفادي قانون الانتقام وفرض قانون الدولة المدنية.

يرى توماس هوبز أن الطريق للخروج من حالة الهمجية واللاقانون يتم عبر الاتفاق على العيش تحت (قوانين مشتركة) والاتفاق على إيجاد (آلية لفرض القوانين) عن طريق سلطة حاكمة، (السّلطة هي الشيء الوحيد الذي يقف بيننا وبين العودة للهمجية أو مرحلة "ما قبل المجتمع" State of Nature كما يسميها هوبز. لذلك فإن تنازل الأفراد عن حقهم في استخدام القوة مقابل أن تستخدم الدولة هذا الحق في حماية المواطنين يعني أن تحافظ الدولة في المقابل على أرواح وممتلكات الشعب وتوفر لهم الحماية ضد أي اعتداء. ومتى ما أخلت الدولة بهذا العقد الضمني أو ما يسميه علماء الاجتماع "العقد الاجتماعي" فإنها تفقد الشرعية بشكل تلقائي ونهائي. فالشعب والمجتمع المدني هو مصدر السلطة، ورضاه هو الأساس الذي تقوم عليه شرعية الدولة.

إن استخدام العنف والقوة ضد الشعب كما يحصل اليوم في ليبيا هو أمر تدينه كل القوانين الدولية وتجرمه كل الأعراف الإنسانية دون جدال. في البحرين تغلبت الحكمة وصوت العقل بسرعة وفاعلية فتجنبت البلاد ما كانت تخشاه من انقسامات أهلية. ونتيجة لتغليب صوت العقل والقانون، استمر الاعتصام الشعبي السلمي بشكل حضاري وفُتح باب الحوار المجتمعي بين الدولة وأطياف المعارضة في جوٍ بناء خال من الشحن والتوتر. وقد كان موقف الجيش في مصر وتونس هو الآخر متسماً بالحكمة والاعتراف بطبيعة العلاقة القانونية والأخلاقية بين المجتمع والسلطة. ولا بد من الاعتراف هنا بأن الرئيسين السابقين بن علي وحسني مبارك قد أدركا وإن متأخراً، تحول ميزان القوة لصالح شعبيهما فانسحبا بطريقة أو بأخرى دون جر بلديهما إلى كارثة. فكان أن انحصر عدد الضحايا المدنيين في حدود دنيا، وإن كانت حياة أي مواطن غالية لا يمكن التفريط فيها بسهولة أو استخفاف.

أما العقيد القذافي فهو حالة أخرى تماماً، حالة تجسد في عمقها عدم احترام للمواطن الليبي، ويتجلى ذلك بشكل صارخ في استخدام عبارات الإهانة بشكل عفوي، من قبيل وصفه للمواطنين بالجرذان، ومن قبيل قوله "لو كنت رئيساً لرميت الاستقالة في وجوهكم" أو قوله "أنا المجد"، وإشاراته إلى أنه متى ما أمر باستخدام السلاح فسيحرق كل شيء. وغير تلك من عبارات الاستخفاف والتحقير لمواطنيه. وليس بعيداً عن ذلك كشف نجله لخياراته عندما قال إنه سيقاتل حتى "آخر طلقة"، وهنا لا بد أن نذكّر أن من يملك السلاح والطلقات بموجب العقد الاجتماعي في الدولة الحديثة هو الدولة لا الشعب، لذا فهو يقول بصراحة إنه سيطلق الرصاص على الأفراد العزل.

إن رضا الشعب هو الأساس لشرعية السلطة، وهو الضمان الوحيد للوحدة والاستقرار وفاعلية النظام الحاكم. وهذا يتطلب إعادة صياغة العلاقة بين المجتمع والدولة، بحيث يكون الشعب مصدراً للسلطة والشرعية السياسية، وشريكاً كاملاً وحقيقياً في تقرير السياسات العامة عبر ممثليه المنتخبين وعبر سبل التعبير المختلفة، وأن يكون غرض الدولة وهدفها وواجبها الأوحد هو خدمة المجتمع وصيانة مصالحه والارتقاء بمستوى معيشته، وضمان كرامة أفراده وعزتهم ومستقبل أبنائهم، لا تسليط الجيش عليهم وشن حرب إبادة جماعية عليهم. إذ إن وظيفة الجيش في الدولة الحديثة، باعتباره جزءاً من المجتمع قبل أن يكون امتداداً للدولة أو ذراعاً لها، هي حماية الوطن من الاعتداءات الخارجية وتوفير الأمن للمجتمع وليس حماية الحاكم لذاته، وهي أيضاً حماية الشعب والوقوف مع مطالبه أو الوقوف على الحياد على أقل تقدير كما حصل في مصر وتونس في حال تباين الرؤى المجتمعية السلمية. وإذا ما استخدمت السلطة هذا الجيش لمجرد حماية نفسها إزاء مطالب المجتمع فإن هذه الشرعية القانونية والأخلاقية والدولية تسقط عن أي نظام.

إننا نتألم حقاً لما يجري للشعب الليبي ونقف وقفة إكبار للشهداء من أبناء الشعب الليبي الذين ضحوا بأرواحهم لتبديد الطغاة وتحقيق الحياة الكريمة.