لا عدسات المصورين ولا تعبيرات الكتاب وتقارير المنظمات المهتمة برصد الأحداث وتحليلها لا أحد يستطيع الآن الإحاطة بمجريات اللحظة التاريخية المرتبطة بحركة الشارع أو التنبؤ بما يتبادر إلى أذهان شعوبنا العربية والإسلامية بعد تحولها من حالة السكون إلى فورات غضب ومراجل نقمة عارمة ما إن تتوقف في مكان إلا وجاء النبأ باشتعال فتيلها في ساحة أخرى..
كيف تخفىّ هذا اليحموم الهادر لسنوات عجاف وأي مستودع للأسرار حفظ مشاعر الملايين وحماها من عيون العسس وتكنولوجيا التنصت وتخرصات المشعوذين في بلاط الحاكم..
عمر من التجمل والتحمل والمهادنة وعقود متوالية أمضاها الجنرال متلذذاً حد الانتشاء كلما دوت هتافات الجماهير (بالروح بالدم نفديك ياطوطم)
فجأة ينقلب الأمر رأساً على عقب..الجماهير ذاتها تقريباً تبدل هتافها السابق لكنها لا تمس موسيقاه ولا تبدل إيقاعاته (الشعب يريد إسقاط النظام)
أكان الماضي بسفره الحافل وشعاراته الولائية حقلاً لتمارين مموهة تنشد هدفاً مختلفاً تضمره الشعوب في حاضرها الراهن..
وهل كان هذا ذكاء فطرياً من جماهير الشعب أم غباء مفرطاً طبعت عليه الأنظمة الحاكمة..
هل سأل سائل..في أي زاوية سيقف التاريخ..وهو يدون روايات الشهود ويتفحص الأدلة ويستعرض الوقائع – كل الوقائع – ريثما يصدر حكمه في هؤلاء وأولئك..في الشعوب قبل الحكام.
ومن يدري فربما خرج التاريخ عن طباعه المعهودة – هذه المرة – وأصدر حكماً منصفاً لا يكتبه المنتصر على حساب (جنرال) قومٍ ذل..
تدركني حالة اندهاش لم تستطع التكهنات مواراتها..أي شيء سيقوله التاريخ عن شعوب هادنت جور أنظمتها وتواطأت معها بالتشجيع طوراً والصمت تارة قبل ذلك كانت السبّاقة إلى اختراع الزعامات التاريخية تماماً كما نسجت صورة الحاكم المنقذ وغمرته بفيض من حنانها الغامر منذ أول خطاب لم يحسن فيه زعيمها الثوري الجديد تهجي الحروف وتشكيل المفردات البسيطة في بيان التنصيب..
أليست الجماهير المطالبة برحيل النظام هي نفسها المسؤولة عن إسناده وتعزيز شوكته وإمضاء إرادته بالحق وقليلاً ما كان وبالباطل في الأغلب الأعم..
وهذا الدم المراق في شوارع المدن والأرواح المزهقة في كل الأنحاء من يتحمل مسؤوليتهما؟ الزعيم القائد الرمز بصفته مصدر التعليمات النافذة ومحرك الثكنات..أم الجماهير التي دفعت فلذات أكبادها إلى الالتحاق بجيوش منفلتة تقوم عقيدتها القتالية على الولاء المطلق للحاكم المستبد.
من صنع الطاغية..ومن الذي غض الطرف عن سفهه إذ ينفق ثروات الأمة في سبيل أوهامه المريضة بدعوى الثورة وريادة مسيرتها نحو البرسيم الأخضر..
إننا مطالبون بإثارة هذا اللون الأحمق من الأسئلة كيلا ننساق مرة أخرى صوب منزلقات خطرة تستبدل طاغية عجوزاً بطغاة متحفزين يركبون موجة التغيير لنبدأ معهم من حيث انتهى السلف المندحر..
إن غبطتنا بانتصار إرادة الشعوب وزهونا البالغ بجيل ديناميكي الحركة واثق الخطى يعبر بطلاقة عن أشواقه العميقة للتغيير لكن ذلك لا ينسينا أهمية الاعتناء بماهية هذا التغيير وموجهاته القيمية ووسائله السلمية ومخرجاته البديلة
ثمة قلق نبيل يستحثنا على التذكير بثورات عربية سابقة دفعت الشعوب ثمنها الباهظ بسخاء نادر لكن سرعان ما وقعت هذه الثورات تحت طائلة الغدرلنراها فيما بعد تعيد إلى أذهاننا أسوأ صور الماضي..
من منا يمتلك الجرأة الكافية لرؤية ليبيا إذ تتمرغ بالدم والدموع..يستدعي الحال ألف ثورة في مواجهة انحراف ثورة واحدة!