مرّ قرابة العام على وفاة البروفيسور الهندي كويمباتور براهالاد، أحد أبرز الأسماء الأكاديمية في مجال الإدارة الاستراتيجية، وصاحب النظرية المبتكرة لمحاربة الفقر (الثروة في قاع الهرم). البروفيسور الذي قضى حياته في دراسة استراتيجيات الشركات الكبرى حتى أصبحت طروحاته محطّ اهتمام وجدل محوريين في حقل إدارة الأعمال على المستوى الدولي شعر قبل سنواتٍ قليلة أنه كرّس حياته ليساعد الغنيّ أن يصبح أغنى والشركات الكبرى لتصبح أكبر، فقرر أن يغيّر مساره البحثيّ للتركيز على هذه المشكلة الأزلية في تاريخ الشعوب: الفقر. ومن أجل هذا الهدف، سخّر البروفيسور خبرته الطويلة في إنعاش الأسواق، وصياغة الاستراتيجيات، والتسويق الدوليّ، ليخرج بنظريته التي نالت شهرة عالمية على نطاق واسع (الثروة في قاع الهرم)، وذلك هوالعنوان نفسه الذي أطلقه على كتابه الذي حقق مبيعات عالية على مستوى العالم، وتحول بالفعل إلى خطة عمل فعلية تمّ تطبيقها في دول عديدة كالبرازيل والهند وغيرها، وشكّلت مثل غيرها من طروحاته السابقة ثورة نظرية في أبحاث (التنمية الاجتماعية)، رغم أنها جاءت من خارج ذلك الحقل العلميّ.

وحسب ما ورد في كتابه، تطرّق البروفيسور إلى بعض التساؤلات الملحّة التي ظلت تراوده طويلاً حتى نزعت به أخيراً إلى تنكّب هذا الطريق وطرح هذه النظرية. ماذا فعلنا من أجل فقراء العالم؟ ولماذا رغم كل هذا التقدم النظري والتقني والمادي الذي يعيشه العالم اليوم مازلنا عاجزين عن حل مشكلة الفقر؟ ولماذا لم نتمكن حتى اليوم من ابتكار (رأسمالية شاملة) يستفيد منها الفقراء مثلما استفاد الأغنياء؟ وكما ذكر براهالاد في مقدمته تلك أن جميع هذه الأسئلة ليست حديثة، وهي بطبيعة الحال ذات الأسئلة التي أرّقت الأمم منذ قرون عديدة، وظلت على مدار السنين صداع السياسيين، ومعضلة الاقتصاديين، وهم الاجتماعيين، وحزن الفنانين، وسخط التجار، وألم الشعوب، وشرارة الثورات.

هذه المحاولات القديمة والمستمرة لمحاربة الفقرأسفرت بالتأكيد عن نجاح ما. وقبل عقود من الزمان، انقسم العالم في رهانه حول الاشتراكية والرأسمالية، وأيهما يحمل حلولاً أنجع لمشكلة الفقر في مرحلة ما بعد الإمبراطوريات والاستعمار. واتخذ آدم سميث، أبو الرأسمالية، وكارل ماركس، أبو الاشتراكية، اتجاهين متعاكسين تماماً، فقسما العالم إلى شطرين، واحترب أبناؤهما حتى سالت الدماء، وكانت النتيجة أن ازداد الفقراء فقراً والعالم حيرة. غيرأن التاريخ أثبت بعد ذلك أن الرأسمالية إذا ضبطت تحولت إلى رفاهية، والاشتراكية إذا ضبطت تحولت إلى دكتاتورية، فخلف العالم النظريتين الحديتين وراءه بعد أن وعى أنه لا يوجد نظريات مطلقة تبقى إلى الأبد، ولا بد أن تظل كل نظرية رهن التعديل والإصلاح حتى تبلغ صيغتها المثلى، وهكذا بدأ العالم في ابتكار أنظمة أكثر تعقيداً تراوح نجاحها من بلد لآخر.

وقبل أن يطرح البروفيسور براهالاد نظريته، لم يكن في جعبة العلماء ما يمكن طرحه لعلاج الفقر أكثر مما هو قائمٌ حالياً من حلول كلاسيكية مثل المساعدات الدولية والرعاية الاجتماعية، أوحتى حلول مبتكرة جديدة مثل القروض متناهية الصغرالتي حاز بفضلها البروفيسور محمد يونس جائزة نوبل. ولكن الحقيقة أن كل هذه الحلول لم تسهم إلا في تخفيف وطأة الفقرعلى الفقراء بينما لم يفلح أي منها في اجتثاث الفقر من جذوره. فما الجديد الذي جاء به البروفيسور براهالاد ونظريته؟ إن ما جاءت به نظريته ليس سوى إعادة تقويم لما عليه الوضع في قاعدة الهرم الاقتصادي: الفقراء. فقد دأب العالم على التفكير أن القابعين في قاعدة الهرم من الفقراء ليس لهم إلا حلين: التبرعات الخيرية المباشرة، أو توفير فرص عمل تناسبهم. ولكن البروفيسور براهالاد رأى حلاً آخر، وهو تحويلهم إلى مستهلكين جيدين، وتجاراً رائدين، ومبتكرين نابهين، ثم وضعهم في بيئة قانونية فعّالة، فتكون قد توفرت لهم بذلك كل مقوّمات الرأسمالية التي تمكّنهم من تكوين سوق منتج ومفيد، يقفز بهم خارج حفرة الفقر، دون تبرعات ولا معونات.

ولكن خلق مثل هذا السوق في قاعدة الهرم الاقتصادي ليس أمراً سهلاً، وحسب رؤية براهالاد، فإن الأمر يتطلب جهداً مشتركاً من ثلاثة أطراف: الشركات الكبرى، والمنظمات الخيرية، والحكومات المحلية. وبما أن الأخيرتين فاعلتين حالياً في مكافحة الفقر، فإن العنصر المفقود هو الشركات الكبرى التي لا ترى أن في قاعدة الهرم سوقاً يستحق الالتفات إليه. وهكذا، سعى براهالاد إلى أن يثبت لهم خطأ تصوراتهم هذه، ولفت انتباههم إلى ما غفلوا عن رؤيته طويلاً، وهو أن هذه السوق الهائلة من المستهلكين في قاعدة الهرم هي في حقيقة الأمر تفوق في القدرة الشرائية الجماعية قمة الهرم ووسطه. فإذا كان فقراء العالم يتجاوزن المليارات الأربعة بمتوسط دخل يقارب ثلاثة آلاف دولار سنوياً، فهذا يعني أن مجموع القدرة الاستهلاكية لهذه الطبقة يفوق القدرة الاستهلاكية للطبقة الغنية والمتوسطة الذين يملكون قدرة شرائية أكبر.. ولكن عددهم أقل.

وبعد أن أثبت نظرياً حجم هذا السوق، اقترح براهالاد تنشيطه والانتقال به من الركود والاستهلاك البسيط، إلى الديناميكية والتنافسية التجارية. ومن أجل تحقيق ذلك، اقترح نظام عمل جماعي تسهم فيه الحكومات المحلية بتوفير بيئة قانونية للتجارة خالية من الفساد والاستغلال، وتسهم فيه المنظمات الخيرية بمعلومات عن أحوال الفقراء واحتياجاتهم، وتسهم فيه الشركات الكبرى بمنتجات معدّلة سعرياً وفنياً لتناسب قدرات الفقراء، ثم يسهم فيه الفقراء أنفسهم بوصفهم ملاكاً لمتاجر صغيرة جداً، وزبائن محتملين للشركات الكبرى، وأيضاً مبتكرين لوسائل تصنيع وتسويق ونقل جديدة بوصفهم أكثر من يفهم احتياجات بعضهم .

المختلف في نظرية براهالاد أنها جاءت من خارج الصندوق. فنظريات التنمية الاجتماعية التي تعنى بمكافحة الفقر انضوت طويلاً تحت جناح (الاقتصاد الكلّي)، ولكن براهالاد جاء ليزجّ بآليات (الاقتصاد الجزئي)، مؤكداً أن الفقير ليس مجرد شخص محتاج للغذاء والكساء وبقية مقومات الحياة الأساسية، بل هو أكثر من ذلك، وهو قادرعلى أن يتصرف كمستهلك ذكي متى منح الخيارات المختلفة، وكتاجر حذق متى منح التمويل اللازم، وكمبتكر مبدع متى منح الحافز المناسب. ولعل المقالة القادمة تحمل تصوراً عن إمكانية تطبيق هذه النظرية لمكافحة الفقر في السعودية.