الآن وقد حقق الشعب الشقيق في أرض الكنانة ما أراد، وتأكد أن ما حدث في مصر منذ 25 يناير حتى تنحي الرئيس حسني مبارك عن سدة الحكم، لم يكن مجرد تظاهرة احتجاج مطلبية، ولم تقده حركة سياسية بذاتها، بل كان في جوهره استجابة لنداء التاريخ، واستنهاضا لمصر لتلعب دورها، كمنطقة جاذبة للنهضة ورائدة لحركة التحرر العربية، فإن على مصر أن تبدأ مرحلة التنمية والإعمار والبناء، والقضاء على الفساد.
لقد كسبت مصر جهادها الأصغر، فإن عليها أن تلج بذات العزيمة والقوة مرحلة الجهاد الأكبر، مرحلة التخلص من التركة الثقيلة، التي تراكمت عبر العقود الأخيرة.
وأهم ما ينبغي التنبه له من قبل قيادات مصر الجديدة، أن قوى الهيمنة الكبرى، وفي مقدمتها الكيان الغاصب، بعد أن وجدت في النظام السابق حليفاً استراتيجياً لها، قد استثمرت عزلة مصر عن محيطها العربي، فمارست عربدتها على شعوب الأمة، فكان العدوان على العراق وفلسطين، وغزو لبنان، وتفتيت السودان، ووصلت عربدة الصهاينة إلى تونس. في هذا السياق، كان الدليل الأوضح على التأثير السلبي لخروج مصر من منظومة الأمن القومي العربي، ومعاهدة الدفاع العربي المشترك، هو صيحات أطفال فلسطين، أثناء غزو لبنان، قاومه الفلسطينيون واللبنانيون لأكثر من ثمانين يوماً، دون أن تحرك القيادة المصرية ساكناً.
قوائم الذل والمهانة التي تعرضت لها الأمة، بسبب غياب دور مصر العربي كثيرة، ليس أقلها احتلال أرض السواد، وتحويل عاصمة العباسيين إلى كانتونات تتقاسمها ميليشيات الطوائف. وللأسف لم تكن عزلة مصر عن ذاتها، من نوع محايد، فقد أريد لها أن تكون في الخندق الآخر، وأن تستجيب لتنفيذ سياسات هي بالضد من إرادة شعبها، وعلى حساب أمنها الوطني والقومي.
نستميح شعب مصر العزيز، ونطلب منه وله العذر، فقد كان في الأعلى من قائمة ضحايا عزلة مصر عن محيطها العربي. وقد واصل طيلة العقود التي مضت كفاحه، وسجل منذ عام 2004م، أكثر من 3000 اعتصام، احتجاجاً على الأوضاع الاقتصادية المزرية، وغياب الحريات السياسية، وأعلن في مظاهرات احتجاجية، تعاطفه مع بلدان عربية واجهت محن العدوان، كما الحال، في الغزو “الإسرائيلي” لبيروت، والعدوان على العراق، وحرب يوليو 2006 والعدوان على غزة نهاية عام 2009. وكان شعب مصر يعبر دائما عن إرادته، وأخيراً كان له ما أراد.
تحديات “الجهاد الأكبر”، كثيرة وغاية في الصعوبة، أهمها الانتقال السلمي إلى نظام برلماني، يكفل احترام التعددية وتداول السلطة، وحرية العمل السياسي، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتوزيع الثروة على أساس الندية والتكافؤ.
إن تحقيق ذلك رهن بمستوى القدرة على تخطي الصعاب، والانطلاق إلى تنمية اقتصادية واجتماعية وسياسية حقيقية، بضمنها تنمية الموارد البشرية، وإعادة النظر في مناهج التعليم، وتأمين السكن والعلاج، والضمان الاجتماعي والقضاء على الرشوة والفساد والمحسوبية، والحد من البيروقراطية.
أمام الحكومة المصرية أيضا، تحدي الانتقال السلمي للسلطة، من النظام الشمولي إلى النظام الديموقراطي، بالتوجه الفوري إلى صياغة دستور جديد للبلاد، وانتخابات حرة، واحترام حرية المعتقد الديني، وتحقيق السلم الاجتماعي، وتشجيع قيام مؤسسات المجتمع المدني، بكافة روافدها، وتنوعاتها، وتأمين حرية العمل الحزبي.
على الصعيد العربي، أمام مصر العمل على الفكاك من أسر اتفاقية كامب ديفيد، وكسر القيود المفروضة على سيادة الدولة المصرية فوق أراضيها. ولن يكون تحقيق ذلك في المدى القريب بالأمر اليسير. فعلى مصر أن تستعيد عافيتها أولا وأن تعيد بناء قوتها العسكرية، لكي تكون قادرة على الدفاع عن سيادة شعبها، وأن تتجنب الدخول في مغامرات غير محسوبة، من شأنها أن تعيد عقارب الساعة إلى الخلف.
لكن ذلك لا يعني، أن تغض القيادة المصرية الطرف عن حقها في فرض سيادتها على أراضيها، بعد تحقيق الانتقال السلمي للسلطة. وفي مقدمة الخطوات التي يفترض أن يقدم عليها النظام الجديد، مراجعة الاتفاقيات الأمنية والعسكرية والاقتصادية والتجارية غير العادلة التي وقعت من قبل النظام القديم، مع الكيان الغاصب، وفي مقدمتها اتفاقية تصدير الغاز التي كانت ولا تزال، مثار غضب شديد من قبل شعب مصر.
إضافة إلى ذلك، هناك تحدي انفصال جنوب السودان عن المركز، فهذا الانفصال يمثل تحديا مباشرا للأمن الوطني المصري. ومن الغريب أن هذا الموضوع لم يحظ باهتمام كبير من القيادة السياسية السابقة، رغم علاقته المباشرة بأمن مصر المائي. وينتظر أن تعمل قيادة مصر الجديدة، على احتواء النتائج السلبية لانفصال الجنوب، بما يضمن عدم تهديد حقوقها المائية.
هناك أيضاً، تحدي الحصار المفروض على شعب فلسطين في قطاع غزة، وإغلاق معبر رفح، من قبل السلطات المصرية، بتنسيق مع الكيان الصهيوني. وكان ذلك موضع غضب من قبل شعب مصر. ويتوقع الفلسطينيون المحاصرون في غزة، ومعهم أمتهم العربية، أن تبادر القيادة المصرية الجديدة، إلى العمل على رفع الحصار الجائر المفروض على قطاع غزة.
ولا شك أن احتلال الأمريكيين للعراق، يمثل تحديا صارخا للأمن القومي العربي، ينبغي استثمار حالة النهوض الشعبي لمناهضته، كما تمثل الأوضاع المتوترة على ضفتي مضيق باب المندب، باليمن على الضفة الشرقية، والصومال على الضفة الأخرى، والأزمة اللبنانية المستعصية، تحديات أخرى للعرب. وقد كان دور مصر معطلاً تجاه معظم هذه القضايا، وجميعها ذات علاقة مباشرة بالأمن الوطني المصري.
نأمل أن يتمكن شعب مصر، من عبور مرحلة الانتقال السياسي بسلاسة، وأن تعود مصر قائدة للشرق، كما كانت دائماً عبر تاريخها المجيد.