ما زال العالم العربي يغلي على فوهة بركان، وما زال الحدث القومي متقدماً عن الهم المحلي ومهيمناً عليه، وهو أمرٌ لم نعرفه منذ وقت طويل إلا في عز الحروب والأزمات الكبرى في فلسطين والعراق. ولعل من المحاسن التي تذكر في هذا السياق زيادة الوعي السياسي والمعرفي لدى فئات الشباب التي ظلت تواجه هجوماً شرساً من التفاهة والتغريب وأربابهما في الإعلام العربي طوال العقدين الأخيرين، وبزوغ القومية من جديد كرابط مهم ومؤثر بعد أن كانت قد تراجعت لصالح الوطنية القطرية أو الأممية الإسلامية في الثلاثين سنة الماضية. والحقيقة أن المرء لا يمكن أن يكون له انتماء واحد فقط وإن ادعى ذلك. فهو مواطن ينتمي لوطنه الذي يقيم فيه أو يحمل جنسيته، وقومي ينتمي لقومه الذين يتحدثون لغته ويشاركونه تاريخه وثقافته، وينتمي قبل ذلك وبعده للرابطة الدينية التي تجمع المؤمنين بها في كل دين. التعارض والتناقض بين هذه الانتماءات لا يوجدان إلا في رؤوس أصحاب الأجندات السياسية ممن يزايدون على الناس باسم الدين أو القومية أو حب الوطن. أما سلبيات هذه الأحداث الأخيرة فمنها إبرازها للتناقض الكبير الذي يعيشه بعض شباب جيل الثورة هذا. فهو يصفق للثورة التي تأتي على مزاجه فقط، مما يعني أن الوعي ليس بذاك العمق، وأن كل هذه التهليلات للثورتين التونسية والمصرية قد تكون مبنية عند البعض على الإثارة أو الرغبة في مسايرة البقية، وليست إيماناً بحق الشعوب الفطري والعادل في تقرير المصير والحصول على الحقوق المشروعة في أوطانهم.

لنأخذ وطننا السعودي وشبابه مثالاً على ذلك، كانت الأغلبية الساحقة من الشباب من الجنسين على الشبكة الافتراضية في غاية الحماس لدعم الثورة المصرية عن طريقة نقل الأخبار وتبادل الروابط رغبة في "فضح" ما اعتبروها جرائم النظام المصري، بحيث لم يغلبهم في ذلك النشاط إلا أصحاب القضية نفسها. وكان من النادر أن تقرأ عن نقد شرعي أو اجتماعي لبعض المظاهر أو السلوكيات المصاحبة لهذه الثورة المدهشة، وهي سلوكيات طبيعية جداً وعادية جداً في مصر أو أي بلد آخر لكنها قضايا تقيم الدنيا ولا تقعدها في بلدنا صاحب الخصوصية الأزلية.

فلم يطرح هؤلاء قضية "الاختلاط" بين المتظاهرين والمتظاهرات، ولم يطرحوا "حكم خروج المرأة دون إذن زوجها ومشاركتها السياسية"، ولا حكم صراخها أمام وسائل الإعلام مطالبة بحقوقها المشروعة، ولا الحديث عن أن المسلم لا ينبغي أن يتوحد مع المخالف عقدياً أو دينياً في مطلب واحد، بالعكس كان يتم تداول مقاطع الفيديو والصور هذه بحماسة مفرطة ومعها عبارات مثل: "لله درها من امرأة مصرية شجاعة" أو "انظروا التلاحم بين الشعب المصري بكافة طوائفه دون تمييز"، وغيرها من التعليقات التي تظهر إعجاباً كبيراً بما كان يحصل في ساحة التحرير القاهرية آنذاك.

المثير للاهتمام هو أن الكثير من هؤلاء الشباب من العامة كما من بعض الدعاة المتحمسين أنفسهم لو عادوا وتخيلوا بعض هذه الأمور التي تقع ضمن الواقع المحلي -بعيداً عن الجانب السياسي والثوري وإنما كسلوكيات عامة- لأعلنوا رفضهم التام لها وبلا تردد. فالاختلاط ليس مقبولاً ولا مبرراً ولا حتى في غرف العمليات، وكلنا يعرف عن حملات أنصار المستشفيات النسائية المستمرة، وهم لا يوافقون على أن تغادر المرأة بيت زوجها دون إذنه ولو كان يذيقها العذاب ألواناً، وكل امرأة تصرخ مطالبة بحقوقها المشروعة من زواج وعمل وحرية ممارسة حياتها الطبيعية دون قيود مصطنعة أو المساهمة في العملية التنموية والسياسية ستُتهم بالعقوق أو قلة التهذيب والحياء والدين وربما بالعمالة للغرب. وهم لا يستسيغون أبداً دعوات التقارب مع شركاء الوطن من أهل الشهادة والقبلة تحت أي مبرر وطني أو شرعي أو قانوني، بل يؤيد بعضهم بشدة التمييز بين المواطنين وفقاً لأصولهم أو مناطقهم أو مذاهبهم أو جنسهم، فهل تشكل الوعي المأمول حقاً لدى هؤلاء الشباب؟

المبادىء، بعكس النظريات والقناعات الوقتية الخاضعة لظروف الزمان والمكان، لا تتلوى ولا تتبدل ولا تتكيف مع الظروف، إما أن تؤمن أو لا تؤمن. فحين تصفق للمرأة المصرية المحجبة التي تصرخ بصوتها الجهور في الميكرفون مطالبة بالعدالة الاجتماعية في ميدان التحرير وتسميها "بنت الرجال" وأنت في الوقت نفسه تطعن في شرف امرأة سعودية تقدمت للمحكمة الشرعية في بلدها مطالبة برفع العضل عنها أو منحها أطفالها وهي أبسط صور العدالة الاجتماعية، فالمبادىء لم تعبر ذهنك يوماً. وحين يبهجك مقطع فيديو لمسيحي يمسك يد مسلم في الإسكندرية ويقولان: "كلنا مصريون" ثم قد تتحاشى يد جارك المختلف معك في المذهب حين يمدها لك مصافحاً فأنت لم ولن تعرف المبادىء طريقاً إلى قلبك أبداً.

نتفاءل بثورات التصحيح هذه التي أزاحت أنظمة قمعت شعوبها ردحاً من الزمن وأورثتهم الفقر والبطالة، وأحترم جيل الثورة الذي آمن بحقوقه وسعى للحصول عليها سلمياً في بلاده، وتسرني رؤية الإنسان يقف إلى جانب الإنسان المقهور أياً كان، ولكنني في الوقت نفسه لا أريد أن أنخدع أنا أو غيري ونظن بأن هذا الدعم والحماس للآخر قد نجح في مداواة أمراض النفوس المتوارثة أباً عن جد والتي تقف في وجه الإصلاحات المرتقبة في بلادنا ذاتها.. فمازال الطريق أمامنا طويلاً.. طويلاً جداً.