يبدو أن النخب الآن في الولايات المتحدة الأمريكية تجري مقارنات واسعة وحادة، وذات نتائج محبطة للغاية، بين النموذج الذي قدمته الإدارة الأمريكية السابقة للتغيير في منطقة الشرق الأوسط من خلال نموذج ما حدث في العراق وبين ما يحدث الآن في المنطقة من تجارب تغيير شهدتها تونس ومصر. في العراق يمكن القول إنه إلى الآن لم تتحقق أية ديموقراطية بالمعنى الذي كانت تطرحه الأذرع الإعلامية للحرب، ولا بالشكل الذي كان يطمح إليه أبناء العراق.

ثمان سنوات من الدماء والتشرد والارتفاع المتزايد في أعداد القتلى، وانهيار كامل البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في العراق، ووصول قوى إلى سدة الحكم قد لا ترغب فيها الولايات المتحدة نفسها، إضافة إلى ما يزيد عن مليون قتيل وملايين المهاجرين والمشردين الذين امتلأت بهم الدول المجاورة للعراق. كل ذلك كان بحثا عن التغيير ومن أجل نشر الديموقراطية في المنطقة، بينما حينما أدارت الشعوب طموحها بأيدي أبنائها شهد العالم كله ما حدث في تونس وفي ثلاثة وعشرين يوما، وما حدث في مصر خلال سبعة عشر يوما، وهي ثورات نظيفة وبيضاء وسلمية واستطاعت أن تطلق خطواتها الأولى نحو الديموقراطية والحرية، في مقابل ثمان سنوات من فشل التغيير في العراق.

لعل المواقف الأمريكية التي أصيبت بنوع من الارتباك وهي تشاهد تلك الثورتين النظيفتين في المنطقة العربية قد حاولت أن تقيم حملة علاقة عامة من خلال انحيازها غير الواضح للشارع كلما رأت أن الأمور تسير لصالحه، وهذه ذات اللعبة التي ما زالت تمارسها في ليبيا إذ لا يزال الصمت والتردد والنداءات الخجولة هي سيدة الموقف، بينما الواقع يشير إلى دماء تسيل على امتداد المسافة من بنغازي إلى طرابلس.

في المقابل، ثمة تجربة ثورة أخرى في المنطقة تتمثل في الثورة الإيرانية التي أثرت ثقافيا وسياسيا في المنطقة العربية بشكل واضح، وأعادت تغيير المشهد السياسي منذ نجاحها في عام 1979م، ولأن الثورة الإيرانية انطلقت من وازع وطموح دينيين، فهي لم تستطع تصدير ثورتها إلى أي مكان آخر في المنطقة رغم عشرات المحاولات والمخططات التي تبدأ من التجييش ولا تنتهي بمحاولات الاختراقات الأمنية، وصولا إلى تشكيل أذرع وأحزاب ودعم جماعات هنا أو هناك، وهو ما يمثل اعترافا سافرا بعدم القدرة على ترويج الثورة وبثها كقيمة وكمبدأ، فاتجهت إلى تحويلها إلى عصابات وأحزاب كما هو الحال في التجربة اللبنانية واليمنية، من خلال نموذجي حزب الله، والحوثيين.

هذا يؤكد بكل وضوح أن الثورات وحركات التغيير التي انطلقت من قيم ومحفزات أيديولوجية لا يمكن أن تصنع نجاحا مستمرا، في الداخل وفي الخارج، وما يحدث منذ قرابة عام من مظاهرات واسعة اندلعت في الشوارع الإيرانية ضد المرشد الأعلى وضد حكومة أحمدي نجاد، دليل على أن الحكم الأيديولوجي الديني حتى إن شهد نجاحا مؤقتا إلا أنه لا يمكن أن يستمر، خاصة مع وجود من لا يفرقون بين الحكم الديني والإسلامي، إذ يمثل الحكم الديني حالة كهنوتية جامدة بينما يمثل الحكم الإسلامي نظاما ينطلق من قيمه الإسلامية في التفاعل مع العالم.

اليوم، وأمام هذه التحركات الشعبية التي تعم دولا عدة من المنطقة العربية، يبدو أن ثمة محاولات إيرانية لإعادة التفكير والإحياء في تصدير الثورة مرة أخرى، لا عن طريق إشعالها فحسب، وإنما عبر محاولة اختطافها والذهاب بها بعيدا عن روح المدنية وطابعها السلمي المدني. فاتجهت إلى إحياء الطائفية كقيمة سياسية مع استغلال التنوع الذي تعيشه المنطقة العربية ومنطقة الخليج العربي.

ما شهدته مملكة البحرين في الأيام الماضية يشير إلى شيء من ذلك العدوان الأيديولوجي الرامي إلى اختطاف الثورة إن لم يكن إلى إشعالها، وهو ما جعل من الواضح أن المظاهرات في البحرين لا يمكن أن تؤدي إلى أي نتيجة سوى إلحاق الضرر بالناس والاقتصاد والمستقبل، ورغم أنه لا تخلو كل بلدان العالم من أخطاء سياسية ومن مظاهر قصور وترد اقتصادي، ورغم ما في بعض مطالب المتظاهرين من منطقية، إلا أن كل ذلك لا يمكن إدارته مع وجود أي حافز أو مؤثر أيديولوجي، وحتى بالنظر إلى حسابات التنوع والتركيبة في البحرين، فإن ذلك يمكن أن يكون مبررا لإصلاحات ولحوارات واسعة ولكنه لا يمكن أن يبرر ثورة يتم دفعها عبر ولاء طائفي لا وطني، فالذين ينتصرون للمذهب أو للطائفة أو للتدين هم غير مؤهلين أصلا لبناء أي كيان حديث، وما حدث في مصر وفي تونس إنما كان ثورات مدنية تماما تراجعت فيها الطائفية والمذهبية، وتحول التنوع إلى ثراء وقوة، وكان غرض الناس من الخروج إلى الشارع من أجل الحفاظ على وطنهم وحقوقهم القائمة على الشراكة لا على الحزبية والمذهبية، ولو أنها شهدت أي تدخل لأفكار دينية أو طائفية لتعرضت لاحتقان مبكر كان سيؤدي إلى فشلها وبأكثر الصور بشاعة.