كَبُرتْ كثيرًا تلك الفتاة الصغيرة التي كنت تحملها بين ذراعيك، وقد كنتَ تظن أنها لن تكبر. سيّان كان ذلك في غفلة منك أو أمام عينيك فقد كبرت وكيف لا تفعل؟ كيف مرّت الأيام حتى أصبحت صغيرتك اليوم في عباءة سوداء ضافية تقف خلفك في طولك؟

عند بوابة الجامعة.. والكلّ يحمل همّ الجامعة.. في زحمة الصباحات الباكرة.. تشاهد بعينيك جموع الطالبات يتدفقن نحو البوابات.. يقطعن الطريق أمام سيارتك بتهور أحيانا وبتردد أحيانا أخرى.. سيارات من كل نوع وسائقين من كل بلد.. وتسألها: "معك دراهم؟" فتجيب بسرعة: "معي، معي" ويزيد توترها فتزداد إشفاقا، وتشعر أنها أصغر البنات سنّا وأقلهنّ حيلة فتدعو لها في قلبك: "الله يرحم حالك يا بنيتي".

لقد كبرتْ كثيرا.. فكم كلّفتك؟ كم أخذت من مالك ووقتك وجهدك منذ أن فتحت عينيها على الدنيا حتى صارت اليوم خلفك في طولك؟ دفتر التطعيمات الصغير.. صور بطاقة العائلة.. اثنا عشر مريولا مدرسيا أو أكثر.. مثلها من الحقائب بل أكثر.. عشرات الدفاتر.. مئات الأقلام.. كراسات الرسم والخرائط والتفصيل.. الهندسات والمقلمات والشرائط ... أنت تعرف، حتما أنت تحفظ هذه الأغراض عن ظهر غيب، وكيف لا تحفظها وأنت تشتريها كل عام مرةً أو مرتين، حتى صارت اليوم خلفك في طولك؟ فهل كانت تستحق؟ هل خطر شيء من هذا في ذهنك وقد تركتها وراء أسوار الجامعة وأنت تدعو " الله يحفظك يا بنتي".

هي اليوم خلفك في طولك.. فكم مرة منذ وُلدت هذه الصغيرة تشاجرت مع والدتها أو والدتك من أجلها؟ كم مرّة صرخت بأعلى صوتك "لا أحد يقول لبنتي شي"؟ كم مرّة حملتها على كتفيك أو أمسكت يدها بكلتا يديك: في الحرم.. في البرّ.. على البحر؟ كم مرّة وضعت شماغك على كتفك وخرجت من المنزل لتلبّي لها طلبًا وعروق رأسك تنبض من التعب؟ فهل كانت تستحق؟ هل خطر شيء من هذا في ذهنك وقد تركتها وراء أسوار الجامعة وأنت تلهج: "يا ربّ تستر عليها".

هي اليوم خلفك في طولك، فإلى أي درجة كانت ستتغير قصة حياتك لو لم تكن هذه الفتاة الصغيرة فيها؟ هل فكرت مرة في قرار حاسم وتراجعت عنه لأنها خطرت في بالك: السفر، الاستقالة، النقل..؟ وكم مرة طردتَ هاجسا في ذهنك من أجلها: أمور ترغب القيام بها، أشياء تريد أن تمتلكها.. أماكن تريد الذهاب إليها..؟ وتنازلت، تنازلت من أجلها، فهل كانت تستحق تلك التضحيات؟ هل تقسم إنها تستحق؟ هل خطر شيء من هذا في ذهنك وقد تركتها وراء أسوار الجامعة وأنت تدعو " الله يوفقك وأنا أبوك ".

لقد ضحيت بالكثير من أجلها فهل أنت مستعدّ لتحمّل المزيد؟ نعم ثمة مزيد . فابنتك الجامعية مازالت بحاجة إليك وسواء كنت ممن يحبّ تعليق شهادات أبنائه على الحائط أو ممن يضعها على أعلى رف من مكتبة التلفزيون فإن دورك لا يقف هنا. من الظلم لك ولابنتك أن يقال إنها قد تخرجت - بفضل من الله ثم بفضلك - ولم يعد بإمكانك أن تقدّم المزيد من أجلها. لقد أقسمتَ إنها تستحق وأنا أقسم إنك لم تقصّر وأقسم أيضا إن صغيرتك مازالت بحاجة إليك أكثر بكثير مما تظن.

إنها بحاجة إليك لكي تساعدها على وضع أقدامها في بدايات المشاوير الطويلة، وما السنون التي مضت إلا تهيئة لمشوار طويل. إنها بحاجة إليك فساعدها في العثور على عمل شريف.. مهنة محترمة تضمن لها حياة كريمة كما عاشتها في كنفك. إنها بحاجة إليك فساعدها في العثور على زوج صالح يعاملها بالمودة والرحمة التي تليق بها ويكمل معها دروب الحياة الطويلة.

لقد تعبتَ كثيرًا وضحيتَ كثيرًا حتى رأيتها اليوم تقف خلفك في طولك، فلا تتردد في مساعدتها على تجاوز تلك الهوة السحيقة التي تفصل بين الدراسة وسوق العمل. لقد قرأتُ الكثير من سير السيدات السعوديات الناجحات فزادتني يقينا أن أمام كل امرأة سعودية ناجحة والد شفيق مشجع ينير أمامها الطريق، وأرجوك أن تكون واحدا من هؤلاء.

لقد رأينا ومازلنا نرى جيوش الخريجات يتدافعن نحو تلك الهاوية المليئة بالإحباط والعجز والاكتئاب ولا يشعر بما يعانين أحد ولا يبالي بهن أحد. وإن كثيرا من الآباء يطلّ على ابنته في تلك الهاوية ويعلم أنها في مأزق ولكنه ينتظر. ينتظر أن تأتيها وظيفة تناسب مؤهلها العلمي ودرجتها الجامعية. وينتظر أطول.. ينتظر حتى يأتيها خاطب يرضى دينه وخلقه وحسبه ونسبه ووظيفته ومكان إقامته ومحلّ ميلاده. فأرجوك ألا تفعل.. أرجوك ألا تنتظر.. بادر.. ابحث لها عن وظيفة: احمل ملفها الأخضر أينما ذهبت فطالما حملتها هي.. اتصل بمن تعرف من الأقارب والأصدقاء واطلب منهم المساعدة في ذلك لأجلها فهي تستحق. ابحث لها عن زوج مناسب: ركز النظر في جماعة المسجد.. قلطة الحارة.. موظفين جدد في الدوام.. دورية الجماعة.. إلخ واستشر من تثق.

لقد ضحيت بالكثير وتنازلت عن الكثير حتى صارت خلفك في طولك فلا تتخل عنها الآن.. إنها تحتاجك اليوم أكثر من أي وقت مضى.