لا تقرأ ما يكتب عن العظماء، ولكن ما خط يراعهم هم بالذات، وإذا أردت البناء المعرفي فامض إلى المصادر الأساسية. وكل من أسلم من الغربيين لم يقرؤوا التفاسير، بل مضوا إلى القرآن مباشرة، فذهلوا من التحليق فوق إحداثيات الزمان والمكان والأشخاص، وهو ما أشار له صاحب الظلال عند قوله تعالى "وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو"، أن الكلمات تشي بطبيعة فوق أرضية، فما معنى البر والبحر وورقة الحب والرطب واليابس والظلمات في جملة واحدة؟
وحين نقرأ مثلا عن الرجل الذي مات قرنا ثم بعث، أو أولئك القوم الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت، أو حتى فتية الكهف، نرى الآية القرآنية تدخل الحدث فتسحب منه الاسم والمكان والزمان وتدخله معمل المطلق، فهنا يلعب الفكر الدور المحوري بسيبانه عبر مجاري الزمن بدون توقف إلى يوم الدين.. وتنتقل الأفكار إلى كل العقل الإنساني الجمعي.
كذلك حصل مع إسلام (جيفري لانج) أستاذ الرياضيات الأميركي و(يوسف إسلام) المغني البريطاني (كات ستيفنس)؛ فلفت نظره منذ مدخل الكتاب أنه ليس ثمة مؤلف.
وحين قرأت كتاب (الصراع من أجل الإيمان) للأميركي جيفري لانج تعجبت من فهمه العميق لكتاب الله، وهو كتاب أنصح بالاطلاع عليه فالرجل أسلم وآمن وأصبح من دعاة الرحمن الرحيم.
وأهمية هذه الفكرة كما يقول المثل أن علة الأخبار في رواتها، وأنا شخصيا حدث لي شيء من هذا القبيل حين طبعت كتابي في النقد الذاتي فقد بلغ من كثرة الأخطاء الإملائية أن حول الكتاب إلى مستوى جديد يتعجب منه الكاتب قبل القاريء!
والأفكار معلقة بالكلمات والويل للكلمات إذا خابت وقصرت؟ وتختنق الأفكار باختناق الكلمات، ولذا فالفكر وبناؤه عمل عبقري ومن الضروري الانتباه إلى هذا المحراب..
وطبعا فهناك شيء من الشواذ لهذه القاعدة والمثل على ذلك فلسفة أيمانويل كانط الفيلسوف الألماني في كتابيه "نقد العقل الخالص" و"نقد العقل العملي"، فهناك صعوبة غير عادية لفهم محتواه ويحتاج جلدا غير عادي، وينطبق هذا أيضا على كتب الفيلسوف الهولندي سبينوزا فقد أحضرت كتبه باللغة الألمانية وبدأت في العمل عليها بدءاً من كتاب "رسالة في تحسين العقل أو الفهم" (Verbesserung des Verstandes) فكانت جميلة في بدايته ولكن تحتاج إلى الكثير من الصبر...
هكذا حصل معي من المجالدة والمغالبة حتى وقع في يدي كتاب (قصة الفلسفة) للمؤرخ الأميركي (ويل ديورانت) فقرأت الكتاب فذهلت من البساطة مع التمكن، وهكذا دخلت إلى عالم سبينوزا وكانط على جسر من ظهر هذا المؤرخ الإنساني، وقرأت بشغف ومتعة، وكان ذلك في أيام مناوباتي في مدينة (جيلزكيرشن بور) في منطقة الرور في ألمانيا، ولأن مناوبات جراحة الأوعية الدموية لم تكن بهذه الكثافة فقد أتيح لي من الوقت ما أهضم به نوعا ما فكر هذين الرجلين خاصة سبينوزا، وأنصح القراء بالاطلاع على هذا الكتاب ولكن بترجمة المشعشع فقد أشع وأبدع، والترجمات تلعب دورا محوريا في نقل المعنى.
لقد ترجم كتاب قصة الفلسفة الشيباني يرحمه الله ولكن لم يكن بجودة وبلاغة ووضوح المشعشع وتمكنه من المعنى، لذا كان من الأهمية بمكان قراءة الترجمة الجيدة..
مع هذا أرجع فأكرر أن التعب والجهد لا يذهب هباء بل يؤتي ثمراته ذللا فعلى من أراد بناء نفسه أن يذهب للمصادر الأساسية فيملأ بها بطارية الشحن العقلي..
ومنه قال القرآن عن نفسه "ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر"..
وبالمقابل أذكر كتاب (الخواطر) لباسكال فهو ليس معقدا ولا صعبا بل يشعر القاريء وهو يقرأ الأفكار وكأن الكهرباء تسري من تحت جلده وهو ما حصل معي حين قرأت فكرته حول اللانهايتين..
نخلص إذن إلى توضيح الفكرة؛ أن الذي يريد أن يبني نفسه معرفيا عليه أن يرجع للمصادر الأساسية من أمهات الكتب فيلتهم بنهم ومتعة، فإن لم يكن وابل فطل كما يقول الرب، بمعنى أن يتصور نفسه وهو يصعد جبلا صعبا من أجل الوصول إلى القمة والتمتع برؤية الأفق الممتد، فمن يصعد القمم يستعن بالعديد من الأدوات، وكذلك من يريد أن يبني نفسه معرفيا قبل أن يصل إلى قمة ربوة ذات قرار ومعين فيرى السهول الخضراء والجبال الراسيات والسماء الزرقاء الممتدة تحلق فيها نسور بيضاء بأعناق طويلة وأحداق بصرها حديد.