يوجد نوعان من الشكوى لا يغيبان عن المشهد الشعبي في كل دول العالم على اختلاف ثقافاتها: الشكوى من تصرفات الجيل الجديد، والشكوى من فواتير الخدمات العامة. وإذا كانت الشكوى الأولى نابعة من غريزة اجتماعية إنسانية لم تتغير عبر التاريخ تقوم على تعظيم الأقدم والتوجس من الأحدث، فهذا يجعل من تكرارها في كل المجتمعات شأناً متوقعاً ، لأن الإنسان هو الإنسان في كل صقع من الأرض، ولكن العجيب أن الشكوى الثانية ليست غريزية، ولا فطرية، بل إنها نتاجٌ مباشر لتفاعل نظمٍ اجتماعية واقتصادية وحكومية كان يمكن أن ينتج عنها احتمالات لا نهائية، ومع ذلك تتكرر مع كل شعوب البسيطة، في المجتمعات المتقدمة والمتأخرة، والاقتصادات الرأسمالية والاشتراكية، والحكومات الديموقراطية والأوتوقراطية، والنظم الفاسدة والصالحة على حد سواء. دائماً دائمـاً هنـاك شعورٌ شـعبي عـام، في كل دولة من دول الأرض، أن الخـدمات العامة يجـب أن تقدم بأسعار أقلّ ومستوى أفضل. 

في الأسابيع الماضية، لم تكد تخلو صحيفة سعودية من مقالة تنتقد نظام (ساهر) الجديد لرصد المخالفات المرورية، وكان أغلب النقد غير موجه للهدف من النظام ولكن للخدمات المصاحبة (التبليغ، الاعتراض، لوحات الشوارع، ... إلخ). وقبل ذلك كانت مشكلة فواتير شركة الاتصالات السعودية والخلل الفوتري الذي شابها، وقبلها مشكلة انقطاعات الكهرباء المفاجئة في عدة مناطق في المملكة. هذه فقط الانتقادات التي جاءت على شكل موجات شعبية، أما دون ذلك فلم تخل المطبوعات المحلية يوماً من مقالات تنتقد الخدمات العامة المدفوعة بالذات، سواءً لانحدار مستواها أو ارتفاع أسعارها، أو كليهما معاً، ناهيك عن نقد الخدمات (غير المدفوعة) كتصريف السيول، والمدارس الحكومية، وغيرها. كل هذا ليس جديداً، ولكن الجدير بالملاحظة هو أن وتيرة نقد الخدمات العامة تتسارع بشكل كبير، رغم أن الخدمات موجودة منذ زمن، والمواطن هو المواطن، فما الذي تغيّر في مجتمعنا حتى أصبحت صحفنا عرائض شكوى، ومجالسنا حلقات تذمر وسخط؟

برأيي أن هذا التسارع عائد لثلاثة أسباب: الأول، تمكّن سلوك الاستهلاك Consumerism من الفرد السعودي مثلما تمكّن من الفرد الغربي قبله. ثانياً، كثرة الخدمات المتاحة للمستهلك في الآونة الأخيرة. ثالثاً، سهولة الحصول على نماذج للمقارنة مع الانفتاح الإعلامي والجغرافي والثقافي.

تمكّن سلوك الاستهلاك من الفرد هو ناتجٌ طبيعي من نواتج النضج الاقتصادي، وبالتالي فهو مؤشر إيجابي إذا أردنا استخدامه في سياق اقتصاد، ومؤشر سلبي إذا استخدمناه في محاكمة سلوك فرد. فالاقتصاد ينتعش مع كثرة الإنفاق ودوران المال وينكمش مع نزعة الادخار والتحفظ. أما الفرد فقد يتضرر من سلوك الاستهلاك مادياً واجتماعياً، وقد يستفيد من انتعاش الاقتصاد بشكل عام في تحسن دخله بسبب تحسن الاقتصاد.

سلوك الاستهلاك هذا هو الذي يدفع الفرد للاستفادة من أكبر قدر من الخدمات المدفوعة، مما يضاعف من فرص عدم الرضا عن مستوياتها وأسعارها، ويتم التعبير عن ذلك بشكل مستمر في محيطه الاجتماعي حتى يبدو الأمر ظاهرة شعبية كالتي نعيشها اليوم في السعودية، وهي ظاهرة لم تكن مشهودة لدى الجيل السابق الذي كان ينظر للخدمات بامتنان، بينما الجيل الحالي ينظر إليها كاستحقاق. 

واستجابةً لهذا السلوك الاستهلاكي المتصاعد، تعددت الخدمات المتاحة. فالمواطن في السعودية بعد أن تعود لعقود طويلة على الفواتير الثلاث الكلاسيكية (الهاتف، والكهرباء، والماء) أصبح الآن محاصراً بسيل من الفواتير الدورية. والطبقة المتوسطة التي هي عماد الاقتصاد غالباً لا تخلو صناديق بريدها في السعودية هذه الأيام من عشر فواتير على الأقل، مدمجة كانت أو منفصلة، إجبارية أو اختيارية: الهاتف الثابت، الهاتف الجوال، الماء، الكهرباء، الإنترنت، تأمين السيارة، البريد، الغاز، البطاقة الائتمانية، القنوات المشفرة. وسواءً كان المستهلك راضياً عن كل هذه الخدمات، أو بعضها، وبغض النظر عن مستوى دخله وسلوك استهلاكه، فإنه لابد أن يزفر بحنق وهو يسددها واحدة تلو الأخرى فتجدد في الفترة القادمة مثل كائنات نهمة لا تشبع، مما يعظّم من شعوره الذي يشاركه فيه جميع شعوب الأرض: بأنه يتعرض لسرقة قانونية من جهات عدّة، فلا يملك أمامها إلا التعبير عن حنقه اجتماعياً كما سلف، فيعزز من الظاهرة شعبياً.

السبب الثالث هو تمكّن المستهلك من إجراء مقارنات سريعة بين الدول الأخرى والشركات المختلفة. فمن الطبيعي أن المستهلك لن يطالب بخدمة لم تُبتكر بعد، ولكنه يطالب بما هو متوفر لغيره وليس له. من النادر أن نجد شكوى من خدمة عامة لا تتضمن في سياقها مقارنة لنفس الخدمة في مكان آخر، وكأن في ذلك تقريعاً للمسؤولين عن تقديم هذه الخدمات، أو تهديداً خفياً باحتمالية الانتقال إلى المنافسين إذا كان ذلك ممكناً.

هذه، برأيي، الأسباب الثلاثة المباشرة التي أدت إلى تسارع وتيرة انتقاد الخدمات العامة في السعودية. ولكن إذا تحدثنا عن نطاق أوسع، فلنقل إن المستفيد أو المستهلك في كل مكان في العالم يملك ذاكرةً ضعيفة. ينسى سريعاً كيف كان مستوى الخدمة سابقاً ويوطّن نفسه بسرعة على مستوى أعلى لم يعد يقبل أدنى منه.

خلال خمسين سنة فحسب صرنا نتذمر من تأخر رحلة طيران نصف ساعة، وننسى أمر هذه الأعجوبة الطائرة التي ستنقلنا عبر السماء من مدينة إلى مدينة، وخلال عشرين سنة، صرنا نتذمر من تذبذب البث الفضائي، وننسى أمر هذا الخيار المتعدد بمشاهدة أكثر من ستمئة قناة عالمية بعد أن كنا نشاهد قناتين فحسب.

وخلال خمس عشرة سنة، صرنا نتذمر من انقطاع الإرسال في هواتفنا الجوّالة، وننسى أن الأسرة بأكملها كانت تعتمد على هاتف ثابت واحد يوضع في الصالة ويستخدمه الجميع، وخلال عشر سنوات، أصبحنا نتذمر من صعوبة تحميل الأفلام على الإنترنت وننسى أن تصفح موقع واحد بدون صور كان يستغرق الوقت نفسه. 

ربما كانت هذه الذاكرة الضعيفة شأناً إيجابياً بما أنها تمنح دافعاً متجدداً لتحسين الخدمات وتطويرها، ولكن الأمر بالتأكيد يستحق أن ننظر إليه كظاهرة عالمية متكررة، وليس كحالة محلية نظنّ أنها مقتصرة على مجتمعنا فحسب. وبالتأكيد، هذه ليست محاولة لمنح تبريرات مجانية للمسؤولين عن تقديم الخدمات لأنها لن تنفعهم في عصر الخيارات المفتوحة، ولكنها محاولة لفهم السلوك الاجتماعي الذي يقف وراء الخدمات العامة التي عادة ما تكون خياراتها محدودة .. ومقدموها معدودين.