-1-

قلنا في مقالنا السابق، إننا سوف نستعرض أفكار بعض المفكرين التونسيين الحداثيين الذين زرعوا ما حصدته الانتفاضة التونسية. وكان لهم الباع الثقافي الأكبر والمعرفي الأطول في انطلاق الانتفاضة التونسية وصناعة تونس الجديدة، بكل ما يحفُّ بها من آمال وأحلام. وكان من بين هؤلاء، المفكر التونسي محمد الحداد الذي قلل – وربما أنكر تواضعاً وتردداً - لتأثير فكره وفكر زملائه وأساتذته في تكوين عقل الانتفاضة التونسية.

-2-

وسنبدأ اليوم بقراءة لأفكار الحداد التي ساهمت – في ظننا – في تكوين عقل الانتفاضة التونسية، وإلا ستكون هذه الانتفاضة بلا عقل، وبلا أفكار مسبقة استقتها من ينابيع الفكر الحداثي التونسي. وهذا من المستحيل. وسوف نبدأ بالحداد، وكان الأولى أن نبدأ بأساتذته من المفكرين الحداثيين الأوائل أمثال عبد العزيز الثعالبي (1876-1944، مؤسس الحزب الحر الدستوري، والمصلح الديني المعروف)، ومحمد العزيز جعيط (أول من قنن أحكام الأسرة في "مجلة الأحكام الشرعية"، منذ سنة 1948)، والطاهر حداد (مؤلف كتاب " امرأتنا بين الشريعة والمجتمع"، 1930 المهم، الذي يقف بقامته الدينية الإصلاحية إلى جانب كتاب الأزهري المصري الشيخ علي عبد الرازق "الإسلام ونظام الحكم"، 1925، والذي كتب في إصلاح العائلة، وتحرير المرأة والمجتمع، من التحجر والأصولية المتشددة)، والطاهر بن عاشور (1879- 1973 ، مؤلف كتاب" أليس الصبح بقريب؟" ، 1907، والذي ضمنه رؤيته للإصلاح، وحدد فيه أسباب تخلف العلوم. ورئيس الجامعة الزيتونية، 1956. ويعد من كبار مفسري القرآن الكريم في كتابه "تفسير التحرير والتنوير". وهو أول من جعل الحرية مقصداً شرعياً في كتابه المهم "مقاصد الشريعة)، ومحمد الفاضل بن عاشور (محرر مجلة الأحوال الشخصية التي صدرت 1956، وأول مفتٍ لتونس المستقلة)، وغيرهم من شيوخ الدين الحداثيين في تونس.

-3-

كما كان الأولى بنا، أن نبدأ بأساتذة الحداد من المفكرين الحداثيين المعاصرين التونسيين أمثال محمد الشرفي، ومحمد طالبي، وعبد المجيد الشرفي، والعفيف الأخضر، ومحمد شريف فرجاني، وعبد الوهاب المؤدب، وهشام جعيط، والحبيب الجنحاني، وغيرهم كثيرون، من مثقفي تونس ومفكريها.

وأفكار هؤلاء وخطاباتهم الحضارية الحداثية – بما فيها خطاب الحداد – تُعزِّز وتُؤكد ما نشره وطبَّقه الحبيب بورقيبة من قوانين وقيم اجتماعية، ودينية، وثقافية، وتعليمية، وسياسية جديدة، في الفترة التي حكم فيها تونس (1956-1987). ومن واجب كل باحث في "تاريخ الأفكار" الإنسانية والتونسية بشكل خاص، أن يربط بين ما قيل في الزمن المعاصر من أفكار وخطابات وبين ما قيل في القرون السابقة. ولكن علينا أن نعترف، بأنه ما زال الوقت مبكراً للربط بين ما قاله المفكرون الأوائل والمعاصرون التونسيون من جهة، وبين ما قرأته، وفهمته، وتفاعلت معه، عناصر الانتفاضة التونسية. لأن ذلك كله سيدخل ضمن كتابة "تاريخ الأفكار". والتاريخ يحتاج عادة إلى زمن كافٍ للبحث، والتحليل، والتأمل، والكتابة.

-4-

كان محمد الحداد واحداً من المفكرين الحداثيين الليبراليين التونسيين المعاصرين. فبالإضافة إلى منصبه الأكاديمي كأستاذ كرسي اليونسكو لعلم الأديان المقارن في الجامعة التونسية، فهو باحث ومؤلف عدة كتب تنويرية منها: "مواقف من أجل التنوير"، "قواعد التنوير"، "حفريات تأويلية في الخطاب الإصلاحي العربي"، "محمد عبده: قراءة جديدة في خطاب الإصلاح الديني"، "الإسلام: نزوات العنف واستراتيجيات الإصلاح"، و"ديانة الضمير الفردي ومصير الإسلام في العصر الحديث".

-5-

لقد امتلأ - في ظني – عقل وضمير وصدر الانتفاضة التونسية من أفكار الحداد، ومن أفكار أساتذته وأقرانه من مثقفي تونس. وفهمت عناصر الانتفاضة التونسية أن "أقسى استلاب هو الذي يفرضه الفكر على نفسه بنفسه، عندما يفقد القدرة على الحركة خارج السائد من الآراء، والمقولات، والأطروحات."

لقد أدركت عناصر الانتفاضة التونسية، أننا نعيش واقعاً جديداً. وجِدة هذا الواقع التي أدركها وعينا فجأة، آلمتنا جميعاً، سواء هنا في تونس أم هناك في مصر. وسبب إيلامها لنا أن الوعي "ظل يلهث وراء أحداث تتعاقب، ووعينا لم يستعد لها ولم يتوقعها بسبب تغييبه عن متابعة العالم حوله، إلا من منظور خطاب مغلق مغالط". وهو ما زال سائداً حتى الآن في بلدان كثيرة من العالم العربي. والحل هو أن "نفتح العقول لتتقبل التفكير الجديد، وترضى بالحوار، وتتعود على المحاجَّة". وإلا فسيجتاح الطوفان فجأة بلداناً عربية كثيرة، يكون الوقت فيها قد مضى، وفات الميعاد، وهو ما شاهدناه في مصر مؤخراً. و (للموضوع صلة).