تظل كتب السيرة الذاتية - إن هي دُوِّنت كما ينبغي – مرجعاً مهماً، على المستوى الإنساني والتاريخي والمكاني والفني، يستأنس به المتلقي بغية استجلاء هذه المستويات، والوقوف على ملامح الحياة كما صورها صاحب السيرة خلال فترة زمنية محددة.

ولأن السيرة الذاتية هي حصيلة امتزاج نوعين من الكتابة: التدوين التاريخي والحكاية الفنية – كما يقول عبدالسلام المسدي – فإن هذا الامتزاج يتجلى في "رحلة العمر والحصاد"، ذلك الكتاب الذي دوّن فيه عضو مجلس الشورى عبدالوهاب بن محمد آل مجثل سيرته الذاتية، فبدا روايةً أدبيةً شيقة، لا يمل القارئ مشاهدها.

وإذا كان المكان يشكل الأثر الأهم في حياة الإنسان، لدرجة أن قال يوري لوتمان: "قل لي أين تحيا أقل لك من أنت"، فإن للمكان في هذه السيرة الذاتية حضوره المبهر؛ فالقرية التي شكلت الملامح الأولى لحياة وشخصية المؤلف، وهي قرية (آل يوسف) إحدى القرى العسيرية الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، والتي تقع على بعد حوالي سبعة كيلومترات إلى الشمال من مدينة أبها – كما يقول المؤلف – كانت حاضرة منذ الوهلة الأولى، بعبقها الأصيل، ومنازلها الطينية والحجرية، مثلها مثل كل القرى في ذلك الزمن، زمن ميلاد المؤلف في عام 1364، غير أنها الآن - كما يقول المؤلف – مدينة صغيرة تنتشر فيها المباني الحديثة والقصور، ويتوافر بها الكهرباء والهاتف والطرق المعبدة، وجامع كبير، كما أن من أبنائها من استثمروا أموالهم فيها فأقاموا بقالات ومحطة محروقات وورشة حدادة وقصر أفراح ومخبزاً، كما كان آل مجثل من أوائل المواطنين في المنطقة الذين استثمروا بحجم كبير في قراهم؛ حيث أنشأ مصنعاً للبلاستيك، وأقام مبنى لإدارة شركته (شركة الندى المحدودة).

ويصور المؤلف أحوال الناس المعيشية في ذلك الزمن، مشيراً إلى أن ملابس الرجال غالباً ما تكون بيضاء، بينما ملابس النساء ملونة، ولم تكن الثياب الجاهزة آنذاك متوافرة إلاّ في أضيق الحدود، سواء للرجال أو النساء، ولذلك جرت العادة أن يتم شراء القماش (رجالي أو نسائي)، وهناك رجال ونساء امتهنوا الخياطة وهم من يتولى تفصيل وخياطة الثياب والسراويل للرجال والنساء.

في تلك الفترة المبكرة يقول المؤلف إنه تعلم مبادئ السباحة في إحدى الآبار بالقرية، والتي كان جميع الرجال والأطفال يزاولون السباحة فيها كل يوم جمعة قبل الصلاة، إضافة إلى بعض (الغدران) وهي التي تتجمع فيها المياه أسفل (العقوم) بعد هطول الأمطار، والتي تسيل على إثرها السيول الكبيرة في الأودية، وكانت تقع على الكبار مسؤولية تدريب الأطفال الصغار على السباحة، إلاّ أن هذه العادة تلاشت بعدما انشغل الرجال بالوظائف الحكومية، وأبرزها في ذلك الوقت الالتحاق بالجيش.

ويستطرد المؤلف في ذكر عادات وتقاليد القرية في الختان والأفراح والحرث والسقي، وغير ذلك من مظاهر الحياة في القرية، ثم يسرد رحلته التعليمية وكيف التحق بالمدرسة العسكرية الابتدائية في أبها عام 1376، والتي كانت تعرف بـ"المدرسة الحربية"، التي تم تأسيسها في أوائل السبعينات الهجرية حسبما يقول بعض من عاصرها، وكان يُؤمّن للطالب في هذه المدرسة مثل نظيراتها التي أنشئت في الرياض والطائف والمدينة المنورة والرس، السكن والإعاشة والملابس الرسمية والدراسة إضافة إلى مكافأة شهرية (100 ريال)، ولذلك كان الإقبال عليها كبيراً.

ويتطرق المؤلف إلى المرحلة المتوسطة التي نقل منها إلى المرحلة الثانوية بعد نجاحه في الصف الثاني المتوسط، حيث التحق بالمدرسة العسكرية في الرياض، بناء على طلب أخيه أحمد (رحمه الله) وكان برتبة رئيس (نقيب) بالجيش العربي السعودي، غير أن هذه المدرسة ألغيت بعد حصوله على شهادة الكفاءة، وتم نقل طلبتها إلى المدرسة الثانوية العسكرية التي كان موقعها على شارع المطار (إلى الجنوب من الكلية الحربية)، وكذلك تم دمج القسم الثانوي مع طلبة الكلية الحربية، وكان آل مجثل أحدهم، إلاّ أنه لم يكمل مشواره التعليمي بالكلية واختار هو ومجموعة كبيرة من الطلبة مغادرتها بعدما صار بينهم وبين زملائهم الذين سبقوهم بعام أو عامين مسافة ست سنوات هي الفترة التي تم إلزامهم بها للحصول على شهادة الكفاءة المتوسطة والثانوية العامة، إلاّ أنهم واجهوا الواقع المر خارج أسوار الكلية.

ومن هنا تبدأ رحلة كفاح المؤلف في البحث عن عمل يؤمن له لقمة العيش، وهي رحلة شاقة بدأت بوظيفة مؤقتة في وزارة الصحة، ثم بناء على نصيحة أحد زملائه تقدم مرة أخرى للالتحاق بكلية الشرطة بعدما تم نقلها من مكة المكرمة إلى الرياض وتغير اسمها إلى "كلية قوى الأمن"، وبالفعل كان أحد المقبولين وتم تحديد يوم 16/ 8/ 1387 موعداً لمراجعة الكلية والانتظام فيها.

ويسرد المؤلف مشواره الوظيفي منذ التخرج، والتحاقه بالعمل كضابط في مواقع متعددة بأبها منها "رئيس المنطقة الثالثة، ثم الثانية ثم الأولى ثم الرابعة (كانت أبها مقسمة إلى أربع مناطق)، ثم بعد ذلك تم نقله ليكون مساعداً لقائد القوة الملازم أول مبشر مرعي عسيري (رحمه الله)، ثم العمل بعد ذلك في عدد من مناطق المملكة، قبل أن يعود مرة أخرى إلى منطقة عسير عام 1397 وكان يومها برتبة رائد، وبعدها بعام واحد رشحه مدير شرطة منطقة عسير لدورة في المملكة المتحدة لمدة سنتين، عاد بعدها وباشر عمله قائداً لمركز التدريب بشرطة منطقة عسير.

ويتذكر المؤلف يوماً يقول إنه لا ولن ينساه أبداً، وهو يوم إحالته إلى التقاعد في 1/ 1/ 1405، بعد رحلة كفاح وجهد وعرق.

ومن هنا تبدأ رحلة أخرى، رحلة البحث عن الذات في عمل آخر، وكانت الأنشطة التجارية والخدمية هي البداية لرجل لم يملك حينما تقاعد إلاّ راتبه التقاعدي، وصار الآن من أكبر رجال الأعمال في منطقة عسير. سافر إلى عدد من الدول الأوروبية والآسيوية وتاجر في الملابس، وغيرها، وشاهد العربات المعلقة (التلفريك) في سينغافورة، وتمنى أن يراها في أبها، فحقق الأمير خالد الفيصل أمنيته، وغير ذلك من الأشياء التي نقلها آل مجثل إلى بيئته وكأنه يرد جميلها. وحتى في المجال الرياضي، ترأس آل مجثل نادي أبها الرياضي وحقق معه إنجازات كبيرة.

هذه السيرة في مجملها درس لشبابنا المقبلين على الحياة، درس في التفاؤل والجد والاجتهاد والكفاح، ومقاومة كل عوامل الإحباط، هي باختصار شديد: درس للإنسان حينما يريد أن يكون!.