جدة التاريخية تعاني من الإهمال العريق، منذ أكثر من أربعة عقود بدأ هذا الإهمال واستمر يتصاعد حتى يومنا هذا، الاهتمام بها لم يتجاوز حدود الإعلام إلى الأرض، في كل عام تحترق بين خمسة إلى ستة منازل من ثروتها التاريخية النادرة، وحين نقول النادرة فلأن جدة هي الوحيدة على البحرالأحمر التي تتمتع بهذه الثروة العمرانية النادرة على مستوى العالم، حيث توجد مواقع ومناطق أثرية كثيرة على كوكب الأرض، لكن من النادرأن تجد ثروة عمرانية تاريخية كالتي في جدة، ومع ذلك مازال الإهمال يقضمها سنويا، قبل أكثر من عشر سنوات كانت جدة التاريخية تضم أكثر من تسعمائة منزل تاريخي، وتناقص العدد بين حريق وهدم وإزالة حتى بلغ الآن نحو ثلاثمائة منزل تتراوح أعمارها بين مئتي سنة وسبعين سنة، لكن الإهمال مستمر وبالتالي فإن التناقص مستمر .
دخلت الهيئة العامة للسياحة على خط المحافظة عل ما تبقى، وهي تستعد الآن لتسجيلها في (اليونسكو )، لكن الهيئة لا تستطيع أن تفعل شيئا على الأرض، سوى المشاركة في اللجان التي تعقد وتنفض دون أن تقدم شيئا ملموسا، وسوى تقديم الاقتراحات والأفكار التي لا يأخذ بها أحد، محمد العمري مدير فرع الهيئة بمنطقة مكة المكرمة قال لإذاعة البرنامج الثاني مساء الخميس الماضي ما يؤكد أن الجميع فشلوا في المحافظة عليها وإيقاف مقراض الإهمال عنها، واتفق مع مذيع البرنامج فهد إلياس في أن هناك عجزا بينا عن تلافي ما يمكن تلافيه، وكأنهما يشيران إلى أنه لابد من جهة أخرى نافذة وقادرة على حل المشكلة من جذورها بعد أن عجزت أمانة جدة عن ذلك الحل طيلة نحو نصف قرن.
المشكلة أن جدة التاريخية تتنازع ملكيتها ثلاث جهات، أمانة جدة، ووزارة الشؤون الإسلامية (الأوقاف) والملاك الذين انقرضوا وخلفوا سلاسل طويلة من الورثة، هذه الإشكالية مع ما يدعمها من روتين حكومي أطول من ليل امرىء القيس، وبيروقراطية متكلسة، كل ذلك جعل الإهمال سيد الموقف والمتحكم فيه.
هناك من يرى أن حل إشكالية الملكية في هذه المنطقة التاريخية النادرة يتطلب تدخل الدولة بحيث تقوم بنزع ملكية المنطقة كلها وتحويل التعويضات إلى المحكمة لتتولى توزيعها على الملاك والورثة، وتتولى الدولة بنفسها عبر هيئة السياحة أو لجنة مختصة صيانة وحماية ما تبقى من تراث عمراني فيها، وهناك من يرى حلولا أخرى، ولست هنا بصدد تقييم تلك الحلول، لكنني أعرف أن الإهمال سيقضي على هذه المنطقة ما لم يتم تدارك الأمر، وطالما تمت مؤخرا الاستعانة بشركة أرامكو للإشراف على معالجة مشاكل جدة مع الأمطار فإنني اقترح أن تتسلم أرامكو جدة التاريخية فالشركة فيما أظن أكفأ ما لدينا حتى الآن لمعالجة الأوضاع المتفاقمة لأنها متحررة من الروتين والبيروقراطية التي تكاد تكتم أنفاس الوطن كله.
لابد من أرامكو أو ما يشبهها في الانتساب إلى العصرعقليا وعمليا لمعالجة أوضاع جدة التاريخية المتفاقمة قبل أن نذرف الدموع على آخر بيت يحترق فيها .وعليكم أن تتساءلوا متى تتحول الحكومة كلها عمليا وفكريا الى أنموذج أرامكو، بحيث لا تبقى هذه الشركة العملاقة وحيدة تقوم بدور المنقذ كلما تغول طوفان الإهمال والجهل.