لأن العزة والكرامة من أسمى ما يتطلع إليه الإنسان ويرغب فيه، والذل والمهانة من أسوأ ما يكرهه ويسعى للخلاص منه، فقد ركز القادة الذين يتطلعون إلى كسب ود مواطنيهم ورضاهم على ذلك، كما ركزت عليه جميع الحكومات، وجعلته في مقدمة شعاراتها.
نحن في المملكة نرفع شعاراً شهيراً ((ارفع رأسك أنت سعودي)) ولا أدري متى بدأنا رفع هذا الشعار، لكن لاشك أن العمل العظيم الذي قام به الملك عبدالعزيز هو والرجال الكرام الذين معه حين وحدوا المملكة وأوجدوا لنا هذا الكيان العزيز بحول الله وقوته وتلاحم أبنائه ووعيهم وإدراكهم لمصالحهم.. أقول إن ذلك العمل العظيم بلاشك هو الذي أوحى لنا برفع هذا الشعار، فالملك عبدالعزيز ومن معه كانوا يريدون أن يظل الوطن عزيزاً كريماً، ويشعر كل مواطن فيه بالعزة والكرامة.
الشعور بالعزة والكرامة إحساس يتكون لدى الإنسان بفعل عوامل كثيرة سنتحدث عن بعضها لاحقاً، ولكن من المهم الآن إيضاح أن مقارنة الإنسان وضعه بأوضاع الآخرين في الشارع أو الحي أو المدينة أو الوطن الذي يقيم فيه أو في الأوطان المجاورة أو غير المجاورة.. أقول إن مقارنة الإنسان وضعه بأوضاع الآخرين من أهم العوامل التي تخلق في الإنسان العزة والكرامة أو تجعله يشعر بالذل والمهانة.
نحن نرفع شعار ((ارفع رأسك أنت سعودي))، أي أننا نريد أن نوجد الإحساس بالعزة والكرامة في نفس كل مواطن هنا في المملكة، ونطرد عنه أي شعور بالذل والمهانة، ولاشك أن رفع الشعار هو البوابة الرئيسية النفسية، ولكن البوابة ليس لها أي معنى إذا كانت لا تؤدي إلى الأفنية الفسيحة والدروب السالكة التي تقود بالفعل إلى ميادين العزة والكرامة الحقة.
لاشك أن لدينا مكاسب كثيرة تجعل الإنسان يفتخر بوضعه ووطنه وتخلق فيه الإحساس بالعزة والكرامة، ولكن ليس غرضي في هذا المقال تعدادها، بل الغرض الحديث عن الأمور الأخرى التي يمكن أن نضيفها ليزداد رأس المواطن ارتفاعاً وتجعله عزيزاً أكثر وممتناً لوطنه وحكومته.
لقد قلت إن مقارنة الإنسان وضعه بأوضاع الآخرين أمر مهم جداً في إيجاد أحاسيس العزة والكرامة، والمواطن السعودي الآن على سبيل المثال يرى ويسمع ويعلم الكثير عن البرلمانات العربية وغير العربية ولديه إحاطة شاملة بحجم صلاحياتها وطريقة اختيار أعضائها ويدرك أغراضها وفوائدها، ولذلك فإن رأسه سيزداد ارتفاعاً ويزداد شعوره بالعزة والكرامة أكثر لو تم تطوير مجلس الشورى في وطنه إلى برلمان حقيقي بطريقة اختيار أعضائه وبالصلاحيات المخولة له، إذ سيشعر حينئذ أن له صوتاً مسموعاً يختار به من يتوسم فيه الصلاح والكفاءة والإخلاص ليمثل حيه ومدينته ومنطقته عندما يتم استصدار التشريعات وإيجاد المشاريع، وسيحس بأن صوته يمكن أن يساعد في تقرير العدالة والدفاع عن الحقوق له ولغيره من المواطنين.
والمواطنة السعودية الآن تسمع وترى (على المكشوف) حجم الحريات المتاحة للمرأة في الدول المجاورة وغير المجاورة مما لا يتعارض مع الثوابت الدينية، وعلى سبيل المثال فهي ترى أن المرأة تستمتع وتستفيد من ابتكارات الحضارة الحديثة بما في ذلك وسائل النقل، فهي تستخدم السيارة وتقودها بنفسها إذا ألجأتها الظروف لذلك، ولهذا ستشعر بالحسرة والألم والنقص بل والظلم إذا وجدت أن هذا الحق قد سلب منها، بل وستشعر بالدونية ولن تستطيع رفع رأسها أمام مثيلاتها من الدول المجاورة وغير المجاورة إذا كان هذا مجال الحديث بينهن.
والمواطن الخريج العاطل عن العمل يدرك الآن أن أغلب الدول القادرة التي تحترم مواطنيها توفر إعانة للعاطلين عن العمل، ولكونه يدرك أن وطنه قادر ويتوسم في المسؤولين الخير ولا يخامره شك في أنهم يحترمون المواطن فإنه لهذا يشعر بالألم والحسرة والعتب الشديد ولا يستطيع رفع رأسه عندما يقارن وضعه بأوضاع الآخرين المماثلين لوضعه في الدول الأخرى التي هي ربما أقل وفرة مالية من بلده، ولهذا فإن الحاجة ماسة الآن لإيجاد إعانة لهذا المواطن تخفف عنه آلامه النفسية خلال الفترة التي يبقى فيها بلا عمل، وتجعله قادراً على التفرغ للبحث عن فرصة العمل المناسبة، وترفع رأسه ليكون على الأقل في مصاف رؤوس الآخرين.
رأس المواطنة والمواطن السعودي سيزداد ارتفاعاً كلما صدرت تشريعات جديدة فاعلة توفر العدالة والحرية والمساواة وتقرر مبدأ تكافؤ الفرص. وكلما وجد المواطن أن حكومة وطنه قد اتخذت التدابير القوية الفاعلة لترشيد تكلفة المشاريع الكبيرة، ورتبت الأولويات، وكلما شعر أن حرباً لا هوادة فيها قد قامت في وطنه على الفساد بكل أشكاله وألوانه، وعلى حالات التهاون واللامبالاة، وعلى المحسوبية البغيضة دون قبول لأي تبرير بما في ذلك تلك الدهاليز التي يلجأ إليها البعض ويسمونها الشفاعة.
وهذا الرأس الغالي للمواطنة والمواطن السعودي سيزداد ارتفاعاً أمام الرؤوس الإنسانية في كل مكان عندما يجد أن حكومة وطنه قد رفعت مخصصات الضمان الاجتماعي بما يوفر للعاجزين عن العمل المعيشة الكريمة، وعندما يجد أنه تم اتخاذ السياسات والإجراءات اللازمة الفاعلة لتوفير فرص العمل في وطنه لطالبيها من المواطنين إما عن طريق سياسات الإحلال التي نسميها (السعودة) أو عن طريق توفير فرص العمل الجديدة.
ستشعر المواطنة والمواطن السعودي بالرضا عندما يجدان أن حكومة وطنهما قد اتخذت التدابير اللازمة التي تبقي رأسيهما مرفوعين كما أراد الملك عبدالعزيز رحمه الله، فلا يشعران بالدونية أمام غيرهما، ولا بالمهانة، ولا بالغربة وهما في وطنهما، ولا بالحاجة الشديدة التي تلجئهما لغيرهما بطرق مذلة. ولا يشعر المواطن بالتفاهة وهو يتسكع في الشوارع بلا عمل ومؤهله الجامعي في جيبه، ولا بالحرمان وهو يرى غيره يدخل (السوبرماركت) الضخم ويملأ العربة بالأغذية اللذيذة والملابس الفاخرة وهو عاجز حتى عن شراء ما يسد الرمق، ولا بالمعاناة الشديدة في الحصول على منزل أو عدم القدرة على ذلك وهو يرى تلك القصور وهذه الأبراج العالية وتلك المشاريع الضخمة التي تكلف عشرات المليارات.
الإنسان في كل مكان يهمه أن يشعر بالكرامة أولاً، وأن يكون قادراً على أخذ حقوقه، ورفض الظلم، وأن يشعر أنه عنصر فاعل مهم في مجتمعه، لوجوده ورأيه قيمة وتأثير، ويهمه أن يجد الفرصة ليعمل وينتج ويكون قادراً عن طريق العمل والكسب على بناء أسرة سعيدة.. حفظ الله وطننا من كل مكروه، وجعلنا متحابين متآزرين، ووفقنا جميعاً مواطنين ومسؤولين لما فيه الخير لنا ولوطننا وأمتنا.. إنه سميع مجيب.