فداحة الخسران الذي يكسو مفاصل أغنية هذا الزمن، وما تتركه من مرارة وأسى، وما تخلفه من غبار ودخان وتعب يفتك بالجسد والسلوك ومكامن الروح، يجعلك لا ترى وتسمع إلا ركاماً من الفراغ والاختناق والحصار النفسي، والانشغالات المعتمة. إن أغلب ما ينحدر إلينا من هذا الغثيان يترك ندوباً جارحة. وجهلاً مركباً، وعصفاً من الإمحال والقلق اليائس. لقد انغمرت هذه الأصوات الكئيبة في أتون العشق الساذج، وعناء المعشوقة في حالة من التصدع والاستكانة والإحباط والفجائعية، فلم نعد نسمع أغنية تكرس قيمة من قيم الحياة فيها تجليات سامية، وإشراق مبهج، ودعوة للتفاؤل، فماذا نسمي ذلك الخطاب الغنائي المليء بالقرف والظلمة والضجيج، وهو يثقب رؤوسنا كالمطارق، ويجلدنا بسياط اليأس والتمزق ويشيع الفوضى في كل الحواس. ليس المطلوب من الأغنية أن تتحول إلى مونولوج ولكنها مطالبة بأن تخرج من أزمتها وضآلتها وحواضنها التعبيرية الفجة لتستزرع لها دلالات وسياقات جاذبة ذات قيمة معرفية مضادة للقبح والبشاعة والنواح والتردي كروائع هذا العصر (بحبك يا حمار - أنا مش خرونق- أركب الحنطور وأتحنطر) وغيرها من مكونات المخيال الشعري العربي المريض والمعطوب في هذا العصر المجذور. لماذا لا تنعتق الأغنية العربية من أسر العاشق والمعشوقة وتغني للحياة للأب للأم للطفل للأرض للوفاء للصدق للتسامح للجار للفلاح للمهن للحرف للطلاب للطبيعة يقول بيرم التونسي :ـ ( يا صباح الخير يا للي معانا الكروان غنى وصحانا والشمس أهي طالعة وضحاها والطير أهي سارحة في سماها يا للا معاها. يا هناه اللي يفوق من نومه قاصد ربه وناسي همومه يفرح قلبه يسعد يومه فرحه طول عمره ما ينساها ولا يسلاها). وغنى بيرم للورد ( الورد جميل وله أوراق عليها دليل من الأشواق شوف الزهور وأتعلم بين الحبايب تتكلم شوف وأتعلم ) وناجى بيرم ربه في خضوع وخشوع وتذلل (مكه وفيها جبال النور طالّه على البيت المعمور دخلنا باب السلام غمر قلوبنا السلام بعفو رب غفور واللي نظم سيره واحد ما فيش غيره دعاني لبيته لحد باب بيته وأما تجلى لي بالدمع ناجيته) ولا تزال أزجاله حية وحارة وكأنه كتبها بالأمس وليس قبل ما يزيد على 60 عاماً أثناء العدوان الثلاثي على مصر: (وقالوا يا إسرائيل إحنا باعتينك وإحنا بالمال والصواريخ بنعينك في المسلمين أذبحي واحد ورا الثاني وكل ما يصرخوا سني سكاكينك) وها هو بيرم يصرخ كما نصرخ الآن :ــ يا أهل المغنى دماغنا وجعنا دقيقه سكوت لله داحنا شبعنا كلام ما له معنى يا ليل يا عين ويا آه.