يلحظ المراقب والمتأمل للأحداث التي شهدها العالم العربي في السنوات الأخيرة، أن الإجراءات التقليدية التي عادة ما تنتهجها الأنظمة للحيلولة دون تعبير المواطن عن تطلعاته ورغباته بشكل سلمي، كلها أخفقت في صد تيار المظاهرات الشعبية الذي نما حتى جرف في طريقه نظامين في شهر واحد. وعلى وجه الخصوص اتضحت خلال الشهرين الماضيين معالم عددٍ من تلك الإجراءات التي ثبت فشلها فلم يعد هناك مجال للشك في عقمها على المدى المتوسط والبعيد، وإن ظنت الأنظمة في نجاح وقتي على المدى القصير.
أول هذه الإجراءات التقليدية هو استخدام العنف المفرط بواسطة رجال الأمن، ومن العنف المفرط استخدام الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي أو الحي، واستخدام خراطيم المياه، وأخيراً الزج بالمواطنين في غياهب الاعتقال. إن هذا الإجراء، وإن نجح ظاهرياً فهو نجاح مؤقت يؤول في النهاية إلى الفشل وذلك لعدة أسباب. فالشرطي أولاً هو مواطن، مثله مثل كل أفراد الوطن، هو جزء من الشعب وهو غالباً ما يكون من الفئات الأقل استفادة من الثروة. لذلك فرغم كون رجل الشرطة أداة يستخدمها النظام، إلا أنه يشعر هو ذاته بمعاناة المواطن العادي في داخله ومن ثم لا يلبث أن يتماهى مع أفراد الشعب البسطاء المتطلعين إلى حاضر أفضل. وإن استخدم رجل الشرطة القوة والسلاح ضد مواطنه، بتأثير واجبه نحو تنفيذ أوامر قادته، فإن ذلك يكون على مضض ولا يستمر طويلاً كما رأينا في ثورة 14 يناير في تونس وفي ثورة 25 يناير في مصر. هناك أيضاً سبب آخر يجعل من وقوف رجال الأمن ضد مواطنيهم أمراً عديم الجدوى، وهو أن رجل الأمن فرد من المواطنين، بمعنى أنه قد يكون أخا أو ابن عم أو ابن حارة للمواطن الواقف على الطرف الآخر، مما يجعل وحدة المواطنة وألفة القرب حاضرة دائماً وهذا يفكك نظرية التباعد والجفاء بين رجال الأمن والمواطنين وبالتالي ينصهر الجميع في بوتقة الوطن سريعاً. ولعل المشاهد الإنسانية التي رأيناها لرجال الأمن في مصر وهم قريبون من المواطنين في المظاهرات في ميدان التحرير هي دليل حي وقريب من ذاكرتنا. فمن ينسى صورة المواطنين وهم يقدمون الورود لرجال الأمن، أو تلك المرأة الأم وهي تقبل رجل الأمن، أو رجل الأمن وهو يحمل طفلاً في حضنه لتلتقط الصور المعبرة عن إنسانية رجل الأمن في مثل هذه المواقف الصعبة والحرجة.
أما ثاني الإجراءات التي قد تلجأ إليها بعض أجهزة الدولة الرسمية للحيلولة دون تشكل نواة المظاهرات فتتمثل في حجب المواقع أو إغلاق وسائل الاتصال وقطعها سواء وسائل الاتصال التقليدي كالهواتف أو الحديثة كالإنترنت وآلياته الجديدة في التواصل الاجتماعي على مواقع الفيس بوك والتويتر واليوتيوب. ولقد ثبت فشل هذا الإجراء أيضاً وبشهادة عصرية قريبة منا كما حدث في تونس ومصر. فوسائل الاتصال هذه ليست مجرد أدوات ثورة في أيدي المتظاهرين، بل هي وسائل لازمة للعديد من الأنشطة الاقتصادية والمصالح الحياتية لجميع الناس بمن فيهم رجال الدولة والأعمال والمهنيون. هي وسائل يحتاجها الطبيب لكي يكون على اتصال بمرضاه، وهي وسيلة تحتاجها المستشفيات في أوقات الطوارئ كما هي وسيلة لرجال الأعمال والمصارف لكي تنجز تعاملاتها. فكل مناحي الحياة باتت تعتمد اليوم على وسائل الاتصال الحديثة بما فيها الحكومة نفسها التي تتجه لأن تكون خدماتها عن طريق الإنترنت.
أما الإجراء الثالث والذي رأيناه جلياً في ثورة 25 يناير في مصر، وكما نراه الآن في ساحات أخرى كاليمن والجزائر وإيران، فهو تزامن أو استباق المظاهرات الشعبية بمظاهرات رسمية مؤيدة للنظام الحاكم. يفشل هذا الإجراء وقد فشل بالفعل لأن المظاهرات الرسمية المؤيدة للنظام غالباً ما يقوم بها أفراد منتفعون يعتمد استمرارهم في تأييد النظام على مقدار ما يدفع لهم، وسرعان ما يهنوا إذا ما انقطعت الهبات والعطايا ناهيك عن تحولهم الجذري إذا ما تبددت الغيوم وانقلبت الموازين. وفي الوقت الذي يكون فيه محرك المظاهرات الشعبية هو المطالبة بالحقوق ورفع المظالم والفساد نجد أن المظاهرات الرسمية تعكس بشكل أساس مصالح شخصية مادية مكتسبة تزول بزوالها، فالحقوق دائماً أقوى من المصالح.
الإجراء الرابع الذي يلجأ إليه كل نظام في مواجهة معارضيه هو الحرب النفسية، والتي تشمل التخوين والارتهان إلى "الأجنبي" أو "الخارجي"، كما تشمل التقليل والتهوين من الحدث عن طريق وصفه بأنه "كلام فاضي" أو وصفه بأنه "يمثل أقلية" أو أنه "لن ينجح"، ومثل ذلك من أوصاف التهوين والتقليل التي سرعان ما انجرفت تحت وطأة المطالب الجماهيرية.
أخيراً، هناك إجراء خامس في هذه الجعبة يتمثل في تقديم إصلاحات سطحية تجميلية يعتقد أنها قد تكون مقنعة للشعب عله يقنع ويريح ويستريح. وهذا الإجراء ينطبق عليه المثل الانجليزي "too little, too late" أي إنه لا يسمن ولا يغني من جوع. فهو لا يتناسب أولاً مع مطالب الشعب الحقيقية في الإصلاح السياسي الجذري وتحقيق العدالة الاجتماعية والقضاء على الفساد علاوة على أنه لا يتناسب مع حجم المقدرات الوطنية التي انتهكها النظام وطبقاته المتنفّذة والمستفيدة. وبالتالي يمكن اعتبار هذا الإجراء وكأنه رمي بالفتات مما يزيد من مشاعر الشعب بالإهانة ولا يعبر عن استجابة صادقة لمتطلبات الكرامة الإنسانية التي يستحقها المواطنون. وهذا الإجراء غالباً ما يأتي ناقصاً لا يتناسب أولاً مع مطالب الشعب الحقيقية في الإصلاح السياسي الجذري وتحقيق العدالة الاجتماعية والقضاء على الفساد علاوة على أنه لا يتناسب مع حجم المقدرات الوطنية التي يكون النظام وطبقاته المتنفّذة والمستفيدة قد جيرتها لصالحها سلفاً. وبالتالي يصبح هذا الإجراء وكأنه مجرد رمي بالفتات مما يزيد من مشاعر الشعب بالإهانة ولا يعبر عن استجابة صادقة لمتطلبات الكرامة الإنسانية التي يستحقها المواطنون.
مقابل هذه الإجراءات الخمسة، التي ثبت أنها غير مجدية في تلافي طوفان الشعوب، يمكن لنا أن نطرح إجراء واحداً يمكن القول بثقة إنه الإجراء الوحيد القابل للنجاح. هذا الإجراء يتمثل في مبادرة النظام بتبني السقف الأعلى لمطالب المواطنين ووضع برنامج زمني لا يزيد عن عامين لتحقيقها بالكامل تحقيقاً "فعلياً" لا تحقيقاً "صورياً".
إن جميع هذه الإجراءات كما يشهد التاريخ القديم والحديث لم تنجح في قمع ثورات الشعوب. وهاهو التاريخ الحديث جداً جداً، كما سطره شعبا تونس ومصر بثورتيهما ضد الظلم والفقر والفساد، يجسد انتفاضة الكرامة الإنسانية المهدرة ويستحضر روح المناضل السلمي العظيم غاندي ويعيد فلسفته في قدرة الاحتجاج السلمي على دحر الظلم والاستبداد. فالصدر العاري الذي وقف أمام بنادق الإنجليز هو صدر مفتوح على الحق مؤمن بعدالة قضيته. تحية للشعوب العربية في نضالها ضد القهر والظلم والفساد وتحية كبرى للشباب الذين قدموا أرواحهم لتعلو أوطانهم.