قامت إسرائيل منذ أيام باعتداء شنيع على مجموعة من السفن التي كانت تحمل مساعدات إنسانية إلى قطاع غزة وعلى متنها مواطنون من أكثر من 30 دولة من شتى أنحاء العالم. هذه السفن، التي أطلق عليها اسم "أسطول الحرية"، كانت تهدف لإيصال المساعدات الغذائية والطبية إلى شعب غزة المحاصر ولفت أنظار العالم إلى معاناة الناس تحت وطأة الحصار الإسرائيلي الخانق على القطاع. أدى الاقتحام العسكري الإسرائيلي لسفن الإغاثة إلى جرح واستشهاد مجموعة من الناشطين، لكن العملية تسببت في إلحاق ضرر كبير بصورة إسرائيل في المجتمع الدولي، وهو أمر تحاول أجهزة الإعلام الإسرائيلية والمتعاطفة معها إلى تداركه منعاً لتداعيات مثل هذا الأمر على مستقبل الدعم الدولي غير المحدود الذي تحصل عليه إسرائيل من بعض الدول الغربية.
وتقول مؤسسة "ستراتفور" للأبحاث في تقرير نشرته في أول يونيو الجاري إن هذه العملية تذكر برواية نشرها ليون يوريس بعنوان "إكزوداس"، ومعناها "الهجرة الجماعية"، والتي تحولت فيما بعد إلى فيلم سينمائي. يحكي الكتاب كيف قامت الحركة الصهيونية العالمية بالتحريض ضد بريطانيا، التي كانت تسيطر على فلسطين بعيد الحرب العالمية الثانية وتضع قيوداً على الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وكان المهاجرون اليهود الذين يلقى القبض عليهم وهم يحاولون دخول فلسطين بشكل غير قانوني يسجنون في معتقلات في قبرص. كان الكتاب يهدف إلى إطلاق حملة دعائية واسعة لتعبئة الرأي العام العالمي ضد بريطانيا لمصلحة اليهود. يروي الكتاب قصة هروب مجموعة من اليهود، معظمهم من الأطفال، من أحد المعتقلات وصعودهم إلى سفينة يطلق عليها اسم "إكزوداس" في محاولة للوصول إلى فلسطين. وفي الطريق، تعترض سفن الأسطول البريطاني السفينة، ويقوم الركاب بالإضراب الجماعي عن الطعام. كان الهدف تصوير بريطانيا على أنها تكمل العمل الوحشي الذي بدأه النازيون ضد اليهود. صورة الأطفال وهم يتعرضون للموت جوعاً تجبر البريطانيين على السماح للسفينة بمتابعة طريقها إلى فلسطين، وإعادة النظر بسياسة الهجرة البريطانية، وفي النهاية أدى ذلك إلى اضطرار بريطانيا لمغادرة فلسطين وترك الموضوع في يد الأمم المتحدة.
هذه الرواية تستند إلى بعض الأحداث الحقيقية، لكنها ليست دقيقة تماما. فقد كانت هناك بالفعل سفينة اسمها "إكزوداس"، لكن القصة لم تكن بالشكل التي صورها ليون يوريس، والذي كان يهدف لكسب تعاطف العالم مع اليهود وتصويرهم بأنهم خرجوا من معسكرات النازية ليدخلوا معسكرات الاعتقال البريطانية. كانت تلك خطة إعلامية ماكرة. فقد ركزت على تصوير اليهود على أنهم ضحايا السياسة البريطانية، وأن العرب يهيئون لمحرقة جديدة ضد اليهود. وقد صور الكتاب والفيلم البريطانيين على أنهم كانوا يساعدون العرب ويقومون بتسليحهم. ولم تكن صحة أو زيف هذا التصوير أمراً مهماً. لم تكن معظم شعوب العالم تعرف الكثير عن قضية فلسطين، وأراد الصهاينة أن يقدموا القضية بطريقتهم الخاصة التي تضمن تعاطف هذه الشعوب معهم، ومن خلال ذلك ضمان تأييد الحكومات الغربية للحركة الصهيونية.
بهذه الطريقة استطاع الصهاينة أن يشكلوا ويصيغوا المواقف السياسية لعدد من الحكومات العالمية لمصلحتهم. ولم تكن صحة أو زيف الرواية أمراً هاماً. كان المهم هو القدرة على تصوير الضحية والمعتدي للرأي العام الدولي بشكل يخدم القضية الصهيونية في النهاية.
ومن ثم ينتقل تقرير ستراتفور للمقارنة بين تلك الرواية التي اختلقتها الآلة الإعلامية الصهيونية لكسب تعاطف العالم وبين الأهداف التي جعلت بعض المنظمات غير الحكومية تفكر في إرسال "أسطول الحرية" إلى غزة. يحاول الفلسطينيون منذ فترة طويلة إيصال صوتهم إلى العالم وتصوير معاناتهم تحت الاحتلال الإسرائيلي الذي يحظى بمساندة أمريكا وبريطانيا وبعض الحكومات الأخرى. ومن ناحية ثانية، اعتمد الفلسطينيون أيضاً خط المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي. لكن إسرائيل كانت دائماً تحاول تصوير بعض أشكال المقاومة، مثل العمليات الاستشهادية، على أنها وحشية واستغلال للأطفال من قبل الساسة الفلسطينيين، واستخدمت إسرائيل هذه الذريعة لتبرير حصار غزة.
لكن "أسطول الحرية"، في رأي ستراتفور، كان يهدف إلى تكرار قصة "إكزوداس" وتصوير إسرائيل أمام العالم على أنها دولة معتدية تحاصر شعباً كاملاً وتؤدي إلى تجويعهم وحرمانهم من أبسط حقوقهم الإنسانية. والهدف الثاني من "أسطول الحرية"، بحسب ستراتفور، هو إيجاد أزمة سياسية داخل إسرائيل بين أولئك الذين يشعرون بأن العزلة المتزايدة التي يسببها موقف إسرائيل من الوضع في غزة وصلت مستوى خطيراً، وبين أولئك الذين يعتقدون أن إظهار أي ضعف في الإرادة الإسرائيلية يُعتبر أمراً خطيراً. من الصعب تصور أي ظرف يجعل الرأي العام العالمي يرى إسرائيل على أنها الضحية بعد الهجوم على "أسطول الحرية". يعتقد الرأي العام العالمي الآن أنه كان على إسرائيل أن تسمح للسفن بالوصول إلى غزة وتفرغ شحناتها الإنسانية هناك، بدلاً من إراقة الدماء. ومع تغير الرأي العام العالمي في الغرب، يتوقع أن يتبع السياسيون خط الشارع أيضاً لأنهم يعرفون أن مستقبلهم السياسي يعتمد على ذلك. كما أن الحادثة بالطبع هزَّت علاقات إسرائيل مع تركيا.
إن الرأي العام يكتسب أهمية خاصة عندما لا تكون القضية ذات أهمية أساسية لبلد ما. وإسرائيل لا تشكل مصلحة أساسية لأي بلد في العالم. لذلك فإن القدرة على كسب الرأي العام العالمي ضد إسرائيل من شأنه أن يعيد تشكيل وصياغة علاقات إسرائيل مع عدة دول هامة بالنسبة لها، وعلى رأسها الولايات المتحدة. إن إدارة الرئيس أوباما أبدت انزعاجاً من عدة مواقف إسرائيلية في السابق، وإذا تغيَّر مزاج الرأي العام الأمريكي الآن فإن هذا قد يمهد لبدء عهد جديد من العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية لا يكون في مصلحة إسرائيل. ولا شك أن الحادثة ستؤدي إلى انزعاج دولي كبير، وأن العلاقات التركية-الإسرائيلية بشكل خاص ستتأثر كثيراً. ومن المتوقع أن تزداد المواقف الأوروبية تشدداً تجاه إسرائيل. أما في الولايات المتحدة، وهي الأهم في المعادلة، فقد تدعم الحادثة مواقف الذين يدعون لتقليص التدخل الأمريكي في الشؤون الخارجية التي لا تخدم المصالح الأمريكية بشكل مباشر. ومع أن ردة الفعل الدولية متوقعة، إلا أن السؤال المهم هو: هل سيؤدي هذا إلى حدوث أزمة سياسية داخل إسرائيل؟ الحكومة المتشددة الحالية تعتقد أن عزلة إسرائيل أفضل من تقديم تنازلات للفلسطينيين. لكن الكثيرين في المعارضة يعتقدون أن العزلة تشكل خطراً استراتيجياً على إسرائيل، وأنها لا تستطيع أن تستمر في الوجود اقتصادياً وعسكرياً في ظل عزلة طويلة.
كلما ازداد تعنُّت إسرائيل، زاد أثر حادثة "أسطول الحرية". الجميع يعرفون أن كسب تأييد الرأي العام يتطلب ذكاء وحنكة، وأن خسارة الرأي العام قد يكون لها نتائج كارثية. فقد أدى ذلك لخسارة بريطانيا للانتداب على فلسطين وسمح لإسرائيل بالاستمرار والبقاء. لقد كانت حادثة اقتحام أسطول الحرية أكثر أثراً من الانتفاضة والهجمات الانتحارية في تغيير المنظور العام لإسرائيل في العالم، وإذا عاد الفلسطينيون الآن إلى استخدام هذه الأساليب فإن ذلك قد يؤثر سلباً على موقفهم وعلى الإستراتيجية التركية الناجحة.
إسرائيل الآن حائرة ولا تعرف كيف ترد. وليس واضحاً بعد إذا كان الفلسطينيون سيعرفون كيف يستفيدون تماماً من هذا الوضع. ولكن مع كل هذا، فإن حادثة "أسطول الحرية" نقلت المعركة إلى ميدان جديد لا يمكن التحكُّم به كما في السابق. الخطوات القادمة ستشمل المطالبة بتطبيق عقوبات على إسرائيل، كما أن التهديدات الإسرائيلية ضد إيران سوف تتم رؤيتها عبر منظور جديد، وهذا قد يؤدي إلى أزمة سياسية في إسرائيل. إذا استطاعت الحكومة الحالية أن تستمر فإنها ستتصرف بحرية أكبر وستؤدي ممارساتها لمزيد من العزلة الدولية. أما إذا سقطت الحكومة فإن إسرائيل قد تدخل مرحلة من عدم الوضوح محلياً. وفي جميع الأحوال، فقد حقق "أسطول الحرية" مهمته الإستراتيجية.