القاعدة الذهبية تقتضي أن "من يملك الذهب يصنع القرار". ولا يبدو هذا غريبا في زمن العولمة وحكومة الشركات عابرة الحدود، ومتعددة الجنسيات. فحفنة من الأثرياء، أو أخوية متعددة الجنسيات، تتحكم في حركة الأموال، وتسعى إلى تشكيل الاقتصاد العالمي وفقا لمصالحها.

فمن بين أكبر 100 من اقتصاديات العالم، هناك 51 شركة و 49 دولة فقط. أما حجم مبيعات أكبر 200 دولة فيفوق دخل دول العالم مجتمعة، ما عدا العشرة الكبار. تسخر هذه الشركات حكوماتها المدججة بالسلاح في مقايضة سياسية اقتصادية لتعزيز قوتها وإحكام قبضتها على شعوب العالم، ولحماية مصالحها حيث كانت.

قبل تعديل الدستور الأمريكي عام 1886، وقضية ما يعرف بمرافعات مدينة سانتا كلارا، بكاليفورنيا ضد شركة السكك الحديدية " ساوث باسيفيك"، كانت الشركات مقيدة بتراخيص تحدد نوع أنشطتها، والمحيط المتاح، وقيمتها المادية، بل وحتى عمرها كمؤسسة نشطة. فعندما ينتهي الترخيص، تموت المؤسسة وتتحلل أعضاؤها. كانت الدولة الوليدة تخشى من سيطرة الشركات البريطانية العريقة والقوية على اقتصاد البلد.

لم يكن للشركات في أمريكا، حتى عام 1886، شخصية اعتبارية. فلم يكن بوسعها امتلاك أرض، أو إقامة دعوى، وغالبا ما كان يحكم عليها بالإعدام، إذا تجاوزت صلاحياتها، أو ضربها الفساد. وكان هذا إجراء الآباء المؤسسين الوقائي من وصول الشركات البريطانية إلى الإمساك بزمام الاقتصاد الأمريكي، والتأثير على صنع القرار السياسي في الدولة الناشئة.

وفي عام 1886م، عدل الدستور بقصة غريبة، أو خطأ في طباعة الحكم، وأصبحت الشركات بمقتضاه شخصيات اعتبارية، لها كل حقوق المواطن الأمريكي؛ حرية التعبير، وامتلاك الأرض ومقاضاة الآخرين، بل والحق في الامتناع عن تسليم وثائق تدين الشركة، بناء على المادة الرابعة عشرة من الدستور. وانطلقت يومها صافرة الإقلاع إلى عولمة السوق، وتم توظيف ما كان بالأمس محرما لغزو العالم.

تآمرت الشركات بقوة حكوماتها، ومن خلال القروض التي يقدمها البنك الدولي، على إرادة الدول، وأسرت الشعوب، وأمسكت بمفاتيح نظام الاقتصاد العالمي. نجحت في فرض سياساتها على صندوق النقد والمؤسسات المالية، المحلية والدولية.

فبمقتضى الاتفاقيات، أصبح بإمكان الشركات مقاضاة الدول والحكومات، الموقعة عليها، وفرض منتجاتها في السوق المحلية رغم المعارضة. وفي الطريق تموت المؤسسات المحلية الصغيرة والمتوسطة، وتتوارى أنشطتها.

فعندما أصبح استخدام مادة الإم تي بي إي (MTBE)، التي تضاف إلى الوقود محرما في كاليفورنيا، على خلفية آثارها السلبية على بيئة المياه الجوفية، تقدمت شركة ميثانكس الكندية بدعوى قضائية ضد الولايات المتحدة لإرغام حكومة كاليفورنيا على قبول المنتج، المتهم، وتعديل القانون الذي ارتضاه المجتمع، لأنه يخالف اتفاقيات التبادل التجاري الحر في أمريكا الشمالية (NAFTA).

من يقرأ التاريخ ويتتبع سلوك الشركات عابرة الحدود يلمس شهوة الغرب في حكم العالم والتسلط على مقدرات الشعوب. اخترعوا آليات الاستعمار ونوعوا أساليبها، فبداية أرسلوا الجيوش، وفي النهاية، أطلقوا العنان لشركاتهم بالنيابة. انتقلوا من الغزو العسكري باهظ الثمن إلى المناداة بحق تقرير المصير وتحرير الشعوب المستعمرة، وتعيين حكومات موالية أو خاضعة لقرارات المركز. اخترعوا العولمة والسوق المفتوحة! وسلموا مفاتيحها للحكام الجدد، "الشركات عابرة الحدود"، والمفوض السامي القادم.

هناك من يعتقد أن شركات النفط والسلاح هي من أشعل نار الحرب في العراق وهي التي لا تزال تترمم على مخلفاتها. مارست حكومة بوش الابن نفس السياسات القديمة بأساليب جديدة. وحصدت الشركات الأمريكية معظم الصفقات الضخمة في العراق ووزعت الباقي على حلفائها في ظروف مشبوهة، وبشروط مجحفة، كما يراها البعض، ثم وقعت الاتفاقيات التي تضمن بقاء قواتها إلى أمد غير محدد لحماية مصالحها متى اقتضت الضرورة. تماما كما فعلت في كوبا، زمن باتيتسيا، إلى أن خرج لهم كاسترو "العفريت".

ونسمع دائما بمعارضة الحكومات والشعوب الغربية لتسخير المسجونين والأطفال والنساء في الصناعات بمرتبات متدنية، وكأنها ذروة الأخلاق الإنسانية وليست خدمات تقدمها الحكومات الغربية لمن يملك الذهب. فالدافع إنما هو إعاقة الإنتاج بتكلفة أقل في دول مثل الصين والهند، وكسر أسس التنافس لسلعة صنعت في الغرب.

لما يئسوا، وضربت هذه الدول بسخافاتهم عرض الحائط، انتقلوا بمصانعهم، ليتمكنوا من المنافسة؛ إلى حيث الأيدي العاملة الرخيصة في تايلاند وبنغلاديش، وحتى الصين والهند. لم يعترضوا على ظروف العمل وتدني الأجور، واستغلال الأقليات، وابتكروا المبررات، "تحسين الظروف المعيشية للشعوب المستعبدة".

وتنبهت الصين فمنعت الغرباء من التلاعب باقتصاد البلد، لكنها استفادت من وجود الرأسمال الأجنبي والتقنيات الحديثة على أراضيها؟ فاشترطت أن يكون للمستثمر الغربي شريك صيني، وتشترط توظيف الكوادر الفنية والعمالة الصينية، واستخدام المنتجات المحلية. كسبت الصين بذلك رأس المال وطورت قدرتها المعرفية، وباتت ثاني أكبر اقتصاد في العالم.

وفي بعض الدول، تملك الشركات عابرة الحدود رأس المال، وتدير العمل أيد أجنبية، وللسكان المحليين أعمال النظافة وحراسة المنشآت، أو توظف منهم واجهات في إدارة العلاقات العامة ومراجعة الدوائر الحكومية.. خطوة "لتحسين ظروفهم المعيشية"!

إنما تحكم العالم اليوم عصابة من الأثرياء نفذت إلى مواطن صنع القرار، وصنعت التكتلات الموالية والمؤيدة لها ولبرامجها تحت قباب البرلمانات والمجالس التشريعية والتنفيذية، وتمكنت من توظيف الآلتين السياسية والعسكرية لتنفيذ برامجها، وأصبح في متناولهم إسقاط الحكومات، وتغيير الأنظمة، بات من الصعب وضع حدود تفصل السياسة عن الاقتصاد، بل إنه الاقتصاد يسود ويتقدم في زمن العولمة.