في منتصف القرن الماضي، حشدت الحكومة الأمريكية كل ما يمكن حشده من معارف وخبرات ومحللين وإحصاءات في محاولة لرصد خطر المدّ الشيوعي الذي اجتاح العالم آنذاك، ابتداءً من الصين إلى كوريا الشمالية ففيتنام وكمبوديا وكوبا والكونغو وغيرها على شكل ثورات متعاقبة ما إن تنتهي من بلد حتى تنتقل إلى الآخر، مما شكّل المفهوم الأوليّ لنظرية (الدومينو) الشهيرة التي لاحظنا شيوع تداولها في وسائل الإعلام العربية ومقالات الرأي بعد ثورتي تونس ومصر الأخيرتين. ولأن قلق المعسكر الغربيّ من نشاط المعسكر الشرقيّ كان بالغاً أشدّه، فقد رصدت لمثل هذا النوع من الدراسات والتحليلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ميزانيات ضخمة، ودُعمت بمعلومات استخباراتية مستمرة، وكان الغرض من ذلك كله تحقيق هدف واحد: التنبؤ بالدولة التي ستندلع فيها الثورة الشيوعية المقبلة حتى يستبق المعسكر الغربيّ ذلك بطريقة أو بأخرى، ويتدخل قبل فوات الأوان.
وبناءً على النتيجة التي تخرج بها كل هذه التحليلات، قام المعسكر الغربي بتدخلات مباشرة وغير مباشرة في شؤون دول كثيرة كانت على وشك الثورة، فنجحت في إطفاء جذوتها أحياناً وتورطت معها في الحريق أثناءً أخرى. ولعل التدخل الأمريكي في فيتنام، والتدخل الفرنسي في كمبوديا، والتدخل البريطاني في إيران كانت كلها أمثلة للتدخلات العسكرية المباشرة لمنع الشيوعيين من الاستيلاء على مقاليد الحكم. وتحولت تلك الدول التي لم تكن شعوبها تثور سوى بحث عن نظام سياسيّ أفضل إلى ميادين للصراع الشرقي/الغربي الذي لم تسقط فيه قنبلة واحدة على واشنطن أو موسكو، بينما احترقت بنيرانه شعوبٌ كاملة، خاضت - للأسف - معركة ليست معركتها، وزُجَّ بها في خيارات دموية بين الرأسمالية والاشتراكية بينما قليلٌ منهم من يعرف (كارل ماركس) أو سمع بـ(آدم سميث) من قبل، ولكنهم اضطروا لأن يسقوا بدمائهم ذلك الجدل الأيديولوجي المتوحش بين الشرق والغرب. يعدهم الشيوعيون بالعدالة والغذاء، ويعدهم الغرب بالرفاه والانفتاح، وهم حائرون بين الخيارات الصعبة التي تترتب عليها مآلات دولهم ومستقبل أطفالهم، في زمن لم يكن في العالم آنذاك تجارب كافية توحي لهم أي طريق يسلكون.
شعوبٌ بأسرها تحددت مصائرها تبعاً لهذه اللعبة: الاتحاد السوفييتي يبذل جهده لتأجيج أي جذوة ثورية في بلد ما، والولايات المتحدة تسعى لإطفائها قبل أن تحرق مصالحها في المنطقة. وقد تمكنت أمريكا وحلفاؤها من منع عدد من الثورات من الاندلاع بطرق يتباين تبريرها الأخلاقي تبايناً كبيراً. فحيناً كانت تدعم الدول المهددة بالثورة دعماً اقتصادياً مباشراً كما فعلت مع اليونان وتركيا، وحيناً آخر كانت تدعم أنظمة ديكتاتورية وتشجعها على ملاحقة الشيوعيين ومنعهم من المشاركة السياسية والزج بهم في السجون. هذه الوسائل كلها نجحت في تجنيب دول كثيرة من المصير الشيوعي، مثل إندونيسيا وماليزيا وتايلاند، بل وفي مزاعم أخرى أنها جنّبت اليابان نفسها من الوقوع في قبضة الشيوعيين بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية. ولكنها أيضاً فشلت في منع الثورات الشيوعية في كوبا وإثيوبيا ونيكاراغوا، كما فشلت في منع الأنظمة السياسية من الانضمام للمعسكر الشرقي بإرادتها كما حدث مع دول كثيرة بعضها في منطقتنا العربية.
الشاهد مما سبق أن التنبؤ باحتمالية وقوع ثورة ما سهل، ولكن التنبؤ بتوقيتها صعب. فكل ما بذله المعسكر الغربي من جهود حقق معدلات متساوية من النجاح والفشل، هذا على الرغم من أن ثورات آنذاك كانت أقل تعقيداً. أولاً، لأن المتغيرات هنا محصورة في أيديولوجية واحدة يسهل تتبع أحزابها وخلاياها. وثانياً، لأن الحركات الثورية مدعومة من بلد واحد، الاتحاد السوفيتي، فيسهل تتبع نشاطاته وعملياته. أما ثورات اليوم فمتعددة الدوافع والبواعث، ومختلطة الدعم والتوجيه. بالتأكيد أنه لا يزال بوسعنا أن ننظر إلى بلد ما، مثل مصر، نظرةً تحليلية معمقة كما فعل الكاتب البريطاني جون برادلي الذي تنبأ أن ثورة ما ستقع حتماً تبعاً لمعادلات الثورة التي ضبطها التاريخ قرناً بعد قرن، ولكن توقيتها يظل لغزاً سياسياً واجتماعياً مستعصياً على الحل، فلا يعرف أحد متى ستصفع شرطية بائع خضار في تونس، ومتى سيؤسس عدد من الشباب المصريين مجموعة فيسبوك ثورية.
إننا إذن نحتاج إلى جيش صغير من علماء العلوم الإنسانية ليطرحوا كل الإجابات المحتملة لسؤال مثل لماذا ثار التونسيون في 2011 وليس قبلها بعام أو عامين؟ ولماذا لم يصبر المصريون حتى سبتمبر المقبل ليختبروا نيّات الرئيس في البقاء أو الرحيل؟ ولكن فيلسوفاً ما قد يختصر ذلك الجهد في إجابة واحدة: إن الذي يحدد التوقيت ليس الظروف والأحداث، بل الوعي.
إذا جاز لنا التعبير، فإن الوعي لدى المجتمعات شبيه ببلوغ الحلم لدى البشر. الجميع يعرف أن الطفل مآله إلى البلوغ ولكن لا أحد يعرف متى تقرّر الغدة النخامية تحويل جسده (الآن) من طفل إلى بالغ، ومتى يقرر المجتمع تحويل نفسه (الآن) من عهد إلى عهد. في الحالتين، لا يمكن أن يبلغ الطفل الحُلم دون أن يتراكم في جسده عاماً بعد عام ذلك التكامل الهرموني الذي يجعل البلوغ ممكناً، ولا يمكن أن تضطر المجتمعات إلى الثورة دون أن يتراكم فيها ذلك الوعيّ الذي يجعل الثورة خياراً مطروحاً. ونحن نقول (الوعي) تحديداً، وليس بالضرورة: الحكمة، أو المعرفة، أو الخبرة، فالوعي يختلف بشكل جذري عن هذه الصفات. (الوعي) يعني القدرة على تقويم الواقع ومن ثمّ صناعة الموقف، بغض النظر عن دقة ذلك التقويم وصواب ذلك الموقف. إنه يعني أن يستيقظ الشعب من سباته، بغض النظر عما إذا كان سيجيد التصرف بعد استيقاظه أم لا، المهم أنه أصبح (واعياً)، وخرج من غيبوبة الخنوع والتهميش إذا كانت حريته الاجتماعية ضيقة، أو متاهات الأيديولوجيا والغيبيات إذا كانت مناخاته السياسية ملوّثة، أو مراوحات الإحباط والسعيّ إذا كان ظرفه الاقتصادي صعباً. وعي الشعوب، إذن، هو (استعادة القدرة على التفكير في المصير)، أياً كانت نتيجة هذا التفكير، تماماً مثلما أن الكافيين الذي في القهوة يوقظ العقل من كسله، ويمنحه القدرة على التفكير.. دون أن يضمن له تفكيراً سليماً طيلة اليوم!