وقفنا مع الخلق جميعا ننظر كيف تبني مصر قواعد المجد وحدها، كيف تعيد شبابها وتدفع الثمن الأحمر سخيا في كل أرجائها.
وكيف لا تشغلنا المحروسة وهي الحاضرة في عقولنا بعلمها وأعلامها، ومزهرة في وجداننا بأشعارها وألحانها، نغضب فتمنحنا عباراتنا، نحب فتهب لنا كلماتنا، وحين نسند ظهورنا إلى التاريخ فمصر هي الجدار والأرائك والزرابي.
راقبنا ميدانها بمشاعر مختلطة، قلق وخوف واعتزاز، راقبنا إصرارها النهائي على التغيير الكامل غير المنقوص، رأينا رصاصها الظالم يستقر في صدرها المظلوم، وغدرها يستنزف وفاءها، حتى فاض بها فاندفعت تغني "أنا يا حبيبي صحيح بـتسامح إلا في عزة نفسي وحبي، وأما يفيض بي ما بعرف أصالح وأعرف آجي كتير على قلبي".
لم يكن الفقر والبطالة هما وحدهما السبب، فمصر صبورة حليمة، وإنما شعور بالمهانة لحق بالشخصية المصرية مدعوما بتشريعات في صلب الدستور، وهو شعور ما كان ليحس بوطأته إلا شباب جديد فتح عيونه على معاني الحرية والحقوق الوطنية والكرامة الفردية وتكافؤ الفرص فتواعد على اللقاء في الميدان، ولحقت به الجموع القديمة التي كانت راضية ومنخرطة في لعبة كرتونية طويلة مع النظام، وكانت، لطول ما تدجنت، تقدم رجلا وتؤخر أخرى، توافق مرة وتتراجع مرة، في حين ظلت كلمة الميدان واحدة صامدة حتى النهاية.
يقول بعض المتخلفين إنها مؤامرات وأجندات خارجية، وهذا كلام فارغ تكذبه نجوع مصر كلها وشرائح الثوار جميعها.
"يصمت الشعب كالجدار وتبقى
في يد الشعب فاتحات المصير"
مصر مكان فذ كما تقول الجغرافيا وإنسان عبقري كما يقول التاريخ
منحت الفراعنة فرعنتهم حتى ظنوا أنهم آلهة
سحرت الإسكندر فبنى فيها إسكندريتها
فتنت كليوباترا فتمردت على أهلها في روما وأثينا
فيها مسجد العربي عمرو بن العاص
فيها أزهر الفاطميين وقلعة الكردي صلاح الدين
فيها ديوان الباشا الألباني وقصور الإنجليز وجدران الأتراك وأبراج المماليك،
وفي أنف أبي هولها أثر من مدافع الفرنسيين
بقي من كل عابر بها ما يشهد بعبوره ويشهد بثباتها
عراقة يبهت فيها الزمن، وتتموج على صفحة النيل مع الأيام.
سلام على مصر.. سلام ثم سلام.