اهتمت وسائل الإعلام الأمريكية بتغطية الأحداث العربية بشكل كبير. حتى إن الثورة المصرية تمت تغطيتها تقريبا بنقل على الهواء مباشرة من كبريات القنوات الفضائية كـ CNN و FOX. إلا أن الاهتمام تجاوز هذا كله إلى متابعة شعبية من قبل عموم الناس ومن الشخصيات الفنية والاجتماعية. في لقاء مع إذاعة npr ذكرت مواطنة أمريكية سبق لها زيارة مصر: أن ما يحدث في الشرق الأوسط اليوم ربما يكون أهم حدث تاريخي في حياتها فهي تعتقد أن تغييرا كبيرا في المنطقة والعالم سينتج عنه.

يمكن تصنيف ردود الفعل على الأحداث التونسية والمصرية بخطوط عريضة كالتالي: إعجاب شعبي من قبل الكثير من الناس والفنانين والكتاب أصحاب إرادة التغيير. يقول هؤلاء: كنا في السابق حين نسمع ما يقوله المتضررون العرب من دولهم: لماذا لا تقوم الشعوب بالتغيير؟ يقولون: كنا نعذر الأفراد بسبب فارق القوّة تجاه الحكومات ولكن الشعب أقوى من أي حكومة ولا عذر له في السلبية. السياسيون، من جهة أخرى، على طرفين: الأول، وأغلبهم ديموقراطيون، يرون أن ما يجري اليوم هو خطوة قد تفتح مسارا جديدا أفضل في الشرق الأوسط. يراهن هؤلاء على أن الحكومات التي تمثل شعوبها هي وحدها القادرة على حل القضايا العالقة منذ فترة طويلة في المنطقة. كما أن هذه الحكومات هي التي ستضمن الاستقرار للمنطقة على المدى الطويل.

من جهة أخرى كان موقف الكثير من اليمين الأمريكي المتمثل بنسبة كبيرة من الجمهوريين لا يزال يرفع شمّاعة الإخوان المسلمين ولا يفكر إلا في المصلحة الأمريكية والإسرائيلية الحالية. يخشى هؤلاء من تغيّر المعادلة الحالية لتتحول من كونها معادلة تدار بين إدارات على تاريخ طويل من الولاء وتمرير المصالح إلى إدارات لها حسابات شعبية ستفرض تغييرا في الدور الأمريكي في المنطقة. لكن الجميع في دهشة من أن ما جرى حتى الآن هو بيد طرف طالما غاب عن المعادلة في الشرق الأوسط: طرف الناس.

من التعليقات الجميلة على الأحداث الأخيرة تعليقات الكوميديين الأمريكان. فأحدهم على قناة فوكس وصف معركة الجمال والخيول في ميدان التحرير بأنها معركة بين عصرين متفاوتين وجيلين مختلفين. جيل يصارع بالفيس بوك والتويتر وأحدث وسائل الاتصالات وجيل آخر يحارب بقطع وسائل الاتصال وبالخيول والجمال. كان هذا المشهد صارخا بالتعبير عن غيبوبة الحكومة المصرية السابقة ورهانها على معادلات قديمة لم تعد صالحة لإدارة بلد أو شعب.

تعليق آخر للساخر SETH MEYERS في فقرته الشهيرة في برنامج "ليلة السبت" الشهير. يعدد "سث" الخاسرين بسبب الأحداث الأخيرة في مصر ومن ضمنهم جملة من المعلّقين الأمريكان الذين وقفوا ضد الثورة المصرية وراهنوا على قدرة النظام السابق على الصمود. يقول "سث" في ملاحظة مهمة، إن هؤلاء قدموا إهانة مزدوجة للشعب المصري فهم من جهة يقرّون بأن النظام السابق نظام فاسد ومتهالك، ومن جهة أخرى يهينون الشعب حين يقولون إنه غير قادر على اختيار رئيس مناسب في حال ديموقراطية حقيقية. يقول "سث": هؤلاء يفعلون كما أن يقول صديق لصديقة: حبيبتك قبيحة ولكنك غير قادر على الحصول على أحسن منها!

يلمس "سثّ" هنا قضية مهمة يشترك فيها كثير من المعلّقين العرب مع المعلقين الأمريكان وهي التخوف من حكومة قادمة متطرفة. هذه الأطروحة يمكن مناقشتها كالتالي: إذا كان المتطرفون لهم الصوت الأعلى في المجتمع المصري والتونسي، وهذا الاحتمال منخفض حتى الآن، فإنما هو نتيجة لحكم الاستبداد الذي جعل من المعارضة تأخذ الوجه المقابل له فإذا كان هو علامة الفساد في نظر الناس فإن معارضيه سيكونون علامة الشفافية والنزاهة ولن تنجلي هذه الصورة النمطية للمعارضة إلا بدخولها للتجربة وظهور حقيقتها على أرض الواقع.

من جهة أخرى يبدو الرهان على استبداد لا نهائي رهانا خاسرا فلا يمكن للأوضاع المتهالكة أن تصمد طويلا وبالتالي فليس أمام الشعوب إلا دخول المغامرة وتحمل مسؤولياتها وخوض تجربة التعبير عن نفسها. هذا هو المسار الطبيعي لتقدم الشعوب ونهوضها. لا بد للشعوب من أن تتحرك، قد تخطئ وتخفق ولكنها على الأقل تتحرك وتزداد وعيا مع الوقت. أنظمة الاستبداد تعيق حركة المجتمعات وتجعلها ترتد على نفسها في حالة مرضية معقدة.

اليوم ما دام أن عددا من الشعوب العربية قد وثقت بأنفسها بأنها قادرة على التغيير فإن الخوف من أنظمة مستبدة في المستقبل أصبح أقل من الماضي. اليوم الشعب أصبح واثقا بأنه قادر على إسقاط النظام متى ما أصبح هذا النظام ضدا للشعب وعدوّا له. هذه الخطوة أيضا بوابة لتغييرات أشد عمقا في الثقافة والفكر. التغيير هو غالبا نتيجة للثقة بالذات. ثقة في القدرة على الفعل والتغيير للأفضل. هذه الحالة التي هي اليوم في أعلى معدلاتها في التاريخ العربي الحديث قد تكون مدخلا وفاتحة إلى تغييرات فكرية واجتماعية واقتصادية كبيرة.

اليوم دخل عدد من الشعوب العربية في المسيرة العالمية للتغيير. كل شعوب العالم مرّت بتجارب صعبة للتطوير والتغيير. بعضها، كما في أوروبا الشرقية وأمريكا الجنوبية، دفعت أثمانا هائلة للتخلص من حكم العسكر والاستبداد. أوروبا ذاتها دفعت الكثير للوصول إلى استقرارها ورخائها وحريتها الحالية. تاريخ المهاجرين الجدد لأمريكا هو تاريخ بفاتورة عالية. لن تكون التجربة العربية بلا مقابل، لن تكون مقاومة المرض سهلة وسريعة. المهم ألا نخلق مرضا جديدا أو أن تستسلم لمرضنا العضال.