كان تفكير المصريين في ميدان التحرير يقول: الحاكم ليس صديقي كي أغضب منه، أو أصفو إليه، بل هو القائم على شؤوني، وعليه أن يقوم بوظيفته بشكل جيد، وسأحفظ له مكانته وتاريخه إن كان عادلاً، ومتصالحاً مع أحلامي ومطالب الزمن، صحيح أنه أقوى مني ويملك ما لا أملك، لكن مكانه صُنع من أجلي أنا، وما لديه هو بعض المقومات الوقتية التي حازها بسببي؛ هكذا كان تفكير المصريين في ميدان التحرير، أو بالأحرى شبابهم هم الذين فكروا بالنيابة، وخطوا الخطوة الأولى والفارقة في كل شيء، وهو تفكير منطقي ومتوافق مع العصر الذي يسمو فوق أبجديات الانسياق، فالرسن القديم لم يعد مجدياً حتى لأكثر الناس بلهاً، ولا مشروعية له في عصر الشباب، الإذلال المطلق يتهشم على مقصلة التجديد والتحديث، إذ لا عبودية في هذا العصر، لا مكان لسلبية السيد عربي، لا مزيد من الدبابات التي تسحق الإنسان وتذله، ولا صوت فوق صوت الشعب إن أراد، لا أسئلة فوضوية ومتأخرة عن البديل، ولا خوف من المجهول الذي ضُخم لأسباب سياسية بحتة، ومصالح جيوب لا تشبع.
أمثال وحكم الغائبين عن الوعي لم تعد مقبولة، رشفة ماء الحرية وحدها من يرتب الشارع، ويعيد الألق، ويرسم الصباحات فوق شط النيل، ويتهجى النهايات السعيدة. التخويف من البديل / البعبع حكاية ملل متهالكة، أكذوبة لا يُلتفت إليها في زمان الشعوب؛ فالبديل هو الذي تصنعه بنفسك، وتختاره أنت، بل وتفرضه باحتجاجك الحضاري، وعليك أن تغامر طالما أنه لا أخبار جيدة تنتظرك في الصباح؛ فالحياة تعيشها مرة واحدة، وما أجملها من حياة حينما تقرر مصيرك بيديك لا بيدي عمرو! ملل الشعوب لا يقاوم بخطاب، ولا تخف آثاره بتنحٍ متأخر تحت الضغط. بعض الجماهير العربية معجبة، متلهفة، ومذهولة مما يجري؛ لكنها ليست مصابة بالعدوى، بل تشترك في اللغة والموال وربما المشكلة! والحلول واضحة ومتقاربة وممكنة أيضاً: إزالة أعراض الملل والرتابة، الإصلاح الحقيقي، وترتيب الأوراق المبعثرة قبل هبوب الريح.. إنه عصر شبابي صارخ الألوان من الماء إلى الماء، ولد في تونس، وتعملق في مصر، ولا ندري أين يُرسي المجاديف؟ كل ما نعرفه أن لذته أن يحيا بكرامة، أن يبوح، أن يتنفس بكامل الرئتين، وألا يفكر أحد بالنيابة عنه؛ فتعاسته أن يُفرض عليه التصالح مع الموبقات، ومع المنقطعين عن فضاءات العصر.. ضوابط اللعبة تغيرت كثيراً، الجذوع المعمرة تتنحى، أو تُنحى لا فرق، انتهت أيام تسمين الزعماء، والقرارات المصيرية التي يتخذها فرد أوحد، مسدد دائماً، ومصيب في كل وقت. رشاقة الشعوب جرفت في طريقها كل المغضوب عليهم، كل الذين لم يفقهوا قوانين القيام بوظيفة الرئاسة بعيداً عن الزوجة والأولاد، والرفاق.. (المومياء ـ لمبة القاز ـ الطباشير) مكانها متحف، أو أرشيف، أو كتاب تاريخ أصفر في أحسن الأحوال، وشكراً على ما تقدم، وعلى الوقت الضائع الذي قضيناه معكم، ولم تقضوه أنتم معنا!
ميدان التحرير تحت شمس الحرية والعدالة والمساواة، حضارة سبعة آلاف سنة تندلق إلى الشارع، تعيد تشكيل الطوابير والمواقف العربية، تقود أمة جائعة، وحافية، ومحبطة، تعودت أن تعيش على نشرات الأخبار، الخطب الطويلة، المواعيد الكاذبة، مسابقات عروض الأزياء، خطط التنمية التي يستعرضها الحزب الأوحد، آلام وذكريات 67م. لكن الشباب يتخطون المحن، والأولاد يكبرون فوق ما نتصور، أو بالأحرى يتجاوزون جهلنا وآفاتنا الطويلة، وأحزاننا الحرى.. زغاريد الصبايا تُلهب بر مصر، والعالم مأخوذ بالمشهد، الولادة أبداً تحبس الأنفاس، تستثير الدموع والمواجع، لكنها منتظرة، ومرجوة، ولا حياة دونها، ربيع البندر يعلن أن ثمة أهراماً جديدة ظهرت في أم الدنيا، وأن المسافة إلى الحلم ليست بذلك البعد المهول والمخيف الذي يتصوره ويصوره لنا الهمجيون، وأن الوطن رائع حينما يصبح للجميع.
هنا أم الحضارات، تصحو على يوم جديد، تكنس الشوارع، وتلمع الأرصفة، وترتب كراسي التلاميذ، في المدن، والغيوط، والأرياف، ثم تغني مع خوفو، وخفرع، ومنقرع، بصوت واحد وجسد واحد: نعم للحرية. كي تُشهد العالم أن سقف الثورة ـ أي ثورة ـ مرتبط بعمق الحضارة، وأن الأسئلة الكبيرة لا تُهاب في زمن الشباب، وفي القاهرة 25 يناير 2011.