بعد قضاء يوم حافل من المشاهد التراثية والتزود بالغذاء التاريخي بين أروقة سوق الحميدية في دمشق القديمة، توقفنا لنأخذ بعض الراحة في أحد المقاهي العتيقة التي تقع بجوارالمسجد الأموي، وعند اقترابي من الكرسي مر أمامي رجل طويل القامة أبيض الرأس حفرت على وجهه السنون تجاعيدها، رأيتها فرصة لقراءة قصص بدأ عقلي يغزلها كعادته مع كل وجه مميز يمر بي، اقترب وحمل عني الأكياس بصمت ووضعها على الأرض بجانبي ثم ابتسم واتخذ لنفسه مقعدا على الطاولة المقابلة لنا، تركت كل ما يدور حولي وركزت انتباهي عليه، بدا وكأنه شاردالذهن في مشكلة يحاول أن يجد لها مخرجا، أو هذا ما غزل له خيالي من قصة، وبعد دقائق حضرت فتاة في عمر حفيداته وجلست تعتذر عن تأخرها عن الموعد فابتسم ثانية وأخذ يحدثها، وبدا من الحوار أنه كان بحاجة إلى مساعدتها في أمر يخص وثيقة السفر الرسمية البالية والتي أخرجها من معطف يدل على أنه كان له يوما قيمة، خاصة أنني لاحظت من نوعية القماش وخطوط القصة التي دلت على أنه صنع خصيصا له، ولاحظت أيضا أن لهجته كانت من المغرب العربي، عندها سرحت وقلت في نفسي أيكون أديبا أم مفكرا من عصر مضى؟ ليته يكون فبذلك أكون قد التقيت، ولو بالمشاهدة فقط، أحد رواد المقاهي التي كانت يوما مسرحا للفكر والثقافة والأدب، من هذه الحادثة انطلق فكري يتنقل كعادته باحثا عن معنى، فأنا ممن يؤمن بألا يمر شيء بحياتنا دون أن يكون ذا دلالة أو عنوانا لطريق يجب أن نسلكه، أو معلومة يجب أن نبحث عنها.

أليس غريبا كيف أن أحداثا معينة تمر بالإنسان فتؤثر في وجدانه حسب ما اختزن بداخله من ذكريات فتشد خيوط الزمن من حوله لعل بعضها يتشابك ويجعل للواقع معنى، وهذه التجربة قادتني لأفكر كيف أننا كنا أمة تخرج إلينا كل يوم بمئة مفكر ومفكر، يجتمعون في المقاهي القديمة لا للتسلية واللهو، بل للتحاور في نطاق منتديات أدبية وسياسية وثقافية، مقاهي تناثرت على ضفاف الأنهار وعلى شواطئ البحار وبجوار الأسواق العتيقة،فمن بغداد إلى الإسكندرية إلى الرباط إلى دمشق إلى عدن وغيرها الكثير من المدن العربية، كنا بلا حدود ثقافية، يجمعنا التاريخ ، تحاكي وجداننا إبداعات اللغة، من علي الدوعاجي إلى إدريس حنبلة إلى نجيب محفوظ إلى بيرم التونسي إلى عبدالرحمن الأبنودي إلى أحمد فؤاد نجم إلى معروف الرصافي إلى صدقي إسماعيل، وهذا الأخير لي معه وقفة هنا لأن اسمه خرج إليّ خلال الفترة الأخيرة وكأنه يطالبني بأن أبحث عنه، خاصة أنني عرفت أن المقهى الذي كان يرتاده يقع في منطقة عزيزة على نفسي "الجسر الأبيض"، مقهى كان على ضفاف بردى قبل الردم، فكل شيء في تاريخنا يردم وتختفي معالمه، ولن يبقى لأبنائنا سوى قصص لن يعرفوها إن استمرت الحدود بين الأفكار قائمة تشكل قطيعة ثقافية ، وإن تركنا سحابة التعتيم تشكل حاجزا بينهم وبين تنوع الثاقفة العربية، ستضفي على ساحة واقعهم المزيد من القيود لتلتف حول جهلهم وتنفيهم عن سحر عالم لغتهم وتاريخهم وتراثهم بل عن هويتهم، لتجعلهم في النهاية عاجزين عن الإبداع كما هم عاجزون عن التواصل، لقد قالها الأديب الراحل صدقي إسماعيل يوما: "إن الذين لا يملكون التعبير"الأصيل" عن ممارسة إنسانيتهم في حرية، قد يكونون عاجزين عن أن تصبح لهم ثقافة قومية، أو أن يؤلفوا أمة ذات تاريخ متحرر من التبعية!.."، والجهل يا سادة يؤدي إلى التبعية.

لنعد لمقهانا، فهناك وفي ذاك المقهى بالذات كان يصدر صدقي إسماعيل مجلته التي كانت عبارة عن نسخة واحدة بخط اليد يتداولها الأصدقاء بالنسخ اليدوي لتنتقل بهذه الطريقة من دمشق إلى اللاذقية إلى حلب، ولهذا ضاع الكثير من نسخها ولم يبق لنا منها سوى القليل، وهناك أيضا كان يجلس ليراقب الناس، خاصة الفقراء منهم، وأحيانا يجالسهم ويتحدث إليهم، ليكتب عنهم لاحقا، لهذا استطاع أن يصور ألم الفقر وقهر الظلم الذي كان واضحا في ثلاثيته "الله والفقر"، خاصة في شخصية "أسعد الوراق"، اليتيم الذي شهد ظلم والده وجنون والدته، كما شهد تصادمهما اليومي، الدرويش الطيب الذي لم يرث من والديه سوى مأوى أقرب إلى الخرابة منه إلى أي شيء آخر، الرجل الذي تأخذه الشهامة الكامنة بداخله لإنقاذ مناضل جرحه رصاص الانتداب الفرنسي، كان بالنسبة للجميع ساذجا، ولكنه كان في حالة غيبوبة عما يجري حوله ببحثه اليومي عن لقمة العيش القانع بما كتبه الله، صاحب القلب الطيب العامر بمحبة الجميع، يمر بأحداث تجعله يستيقظ على قهر الظلم وغدر الناس، ولكنه رغم كل ذلك يظل ينظر إلى الحياة على أنها جديرة بأن تعاش ولكن ليس من دون كرامة حتى وإن كلفه ذلك حياته.

كيف وصل بي الأمر لأنتهي بتنقلي بكم إلى أسعد الوراق بالذات؟ لأن أحداث واقعنا العربي، خاصة في الأيام القليلة الماضية أبت إلا أن تجرني إليه، رأيته أداة تشبيه أو ربط، لأنه ببساطة يجعلنا ندرك أن بداخل كل من قد نعتبره درويشا مسالما أو مستكينا يقبع مارد صامت، ينتفض ضد الظلم في وقت لا يتوقع أحد منه أن لديه حتى إرادة، ليخرج بطلا أو شهيدا، ألم أقل لكم غريبة هذه الحياة وكيف أننا دائما نبحث عن العلاقة أي علاقة يرسمها لنا عقلنا الباطن ليساعدنا على الإدارك، لكي نقترب ولكي نفهم، كلمات وأحداث من خيال أو من واقع، نجد أننا ننتقل من حدث إلى حدث من فكرة إلى فكرة، ولكننا في النهاية نجد أننا من خلالها نقف على أرض صلبة اسمها الإدراك، كلمات نكتشف قوتها رغم أنها كتبت في عصرغيرعصرنا ولجيل غير جيلنا نقرؤها ثانية لنجد أنها تدفعنا إلى المستقبل، إن نحن فكرنا وتواصلنا وعبرنا تلك الحدود.