أكتب هذا الأسبوع من سول، عاصمة كوريا الجنوبية، حين أعلن الرئيس حسني مبارك تنحيه وتولي الجيش مقاليد الحكم في مصر، وقد فهمتُ لم كنا، عرباً وخليجيين، متابعين لأحداث مصر، ولكنني لم أكن أتوقع أن يهتم الكوريون بهذا الحدث. واكتشفت أنني كنت مخطئاً، فقد غلبت أخبار مصر هنا على جميع الأخبار الأخرى، وظهر لي تضامن قوي مع ما حققه الشعب المصري، تراه منعكساً في البيان الرسمي الذي أصدرته كوريا الجنوبية بعد تنحي الرئيس مبارك، وأشادت فيه بالتغييرات السياسية في مصر، واعتبرت أن "ما جرى هو انتصار للشعب المصري على طريق الديموقراطية". ويشير الكوريون إلى أوجه تشابه بين تجربتهم وتجربة مصر. فقد مرت الدولتان بحكم عسكري مباشر، ثم حُكموا من خلال أحزاب مدنية تسيطر عليها نفس العصبة العسكرية-المدنية، كما مرتا بحكم فردي وعانتا من الفساد والثراء غير المشروع لأفراد تلك النخبة.

وعلى صعيد الحراك الشعبي، يتذكر الكوريون انتفاضة كوانجو Kwangju في عام 1980، التي أشعلتها مجموعة من الطلبة والشباب، مثل انتفاضة مصر، وكانت موجهة ضد الفساد والاعتقالات السياسية، وكبت الحريات، الذي كان يتم تحت قانون الطوارئ (الحكم العسكري). واستمرت الانتفاضة أسبوعاً إلى أن هاجمها الجيش الكوري بعنف غير مسبوق، تسبب في مقتل نحو مئتين وإصابة الآلاف، مثل انتفاضة مصر، واعتقال الآلاف.

ولكن بعد هذا تنتهي أوجه التشابه، ففي كوريا أدت مذبحة كوانجو في نهاية المطاف إلى إنهاء حكم العسكر، وسارعت في تحقيق تحول ديموقراطي حقيقي في كوريا، في حين أدت مواجهات المتظاهرين في مصر مع قوات الأمن إلى تعزيز نفوذ العسكر. ولذلك فإن الكوريين لا يفهمون كيف يسلم المصريون أمرهم للعسكر، ولا يدركون كيف يصبح الجيش هو المنقذ، إلا أن تكون الأوضاع قد وصلت في مصر إلى حضيض لم تصل إليه كوريا في تاريخها.

ويتخذ الكوريون هذا الموقف السلبي من الحكم العسكري على الرغم من أن نهضة كوريا الاقتصادية تحققت في ظل حكمها العسكري، ولكنهم يرون أن ذلك كان مغامرة غير مضمونة النتائج، ولا يرغبون في تكرارها.

والحقيقة أنه ليس ثمة تشابه كبير بين تجربة كوريا ومصر في المجال الاقتصادي، على الرغم من التشابه في التجربة السياسية. فالمؤسسة العسكرية في كوريا ونظيرتها المصرية قد اتبعتا طريقين متناقضين تماماً، تظهر نتيجته في الفرق الكبير بين المصير الذي انتهت إليه مصر والنتيجة الباهرة التي حققتها كوريا. فمنذ خمسين عاماً، كان دخل الفرد في مصر يساوي مثيله في جنوب كوريا، أما اليوم، فيبلغ دخل المواطن المصري نحو عُشر نظيره الكوري.

ماذا حدث؟ جزء من الجواب يعود إلى كوريا نفسها وما حققته خلال تلك الفترة، والجزء الآخر إلى ما حل بمصر خلال الفترة نفسها. ففي عام 1961، عندما استلم العسكر السلطة في كوريا دون أن تكون لهم أي خبرة في إدارة الاقتصاد، وبدلاً من أن يجتهدوا في إدارته، أو يديروه لحسابهم، كما يفعل العسكر في كثير من الدول، جلبوا خيرة العقول الاقتصادية في كوريا وخارجها. واستخدمت كوريا في تنميتها الاقتصادية مزيجاً فريداً من الحرية الاقتصادية والدعم الحكومي، والمساعدات الخارجية، والمعونات الفنية من المنظمات الدولية، وأنفقت بسخاء على البحث العلمي وتطوير التعليم والصحة والبنية التحتية، وسخرت كل ذلك لخدمة الاقتصاد.

وخلال تلك الأعوام الخمسين ارتفع دخل الفرد الكوري من نحو 200 دولار في السنة، إلى أكثر من عشرين ألف دولار في عام 2010، أي أكثر من مئة ضعف. وفي الفترة نفسها، تضاعف حجم الاقتصاد الكوري أيضاَ من أقل من ثلاثة مليارات دولار في عام 1961 إلى تريليون دولار العام الماضي، وأصبحت كوريا أحد الأركان الهامة للاقتصاد العالمي - عضواً في مجموعة العشرين ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (نادي الكبار)، وكل تجمع اقتصادي كبير.

أما في مصر، فقد كان دخل الفرد، كما أسلفتُ، مساوياً لنظيره الكوري في عام 1961، أما اليوم فيبلغ 2,200 دولار، أي نحو 11% من دخل الفرد في كوريا. أما الحجم الإجمالي للاقتصاد المصري، فلم يتجاوز 200 مليار دولار في العام الماضي، أي ما يعادل 20% من حجم الاقتصاد الكوري، على الرغم من ثروة مصر في النفط والغاز، وفقر كوريا في تلك الموارد.

ولعل السبب في هذا الأداء المحزن أن عسكر مصر قرروا إدارة الاقتصاد بأنفسهم في بداية الأمر، دون خبرة سابقة، وأمموا كل ما يمكن تأميمه وما لا يمكن، وقضوا على روح المبادرة والابتكار، وكبتوا الحرية الاقتصادية والسياسية على حد سواء. وعندما فشلت تلك الإدارة، تبنّت مصر سياسة الانفتاح، التي أثبتت أنها مأزق أكثر خطورة، بالطريقة التي تم تبنيها، وأجهزت على البقية الباقية من إمكانيات الاقتصاد المصري، ولم تتعد تلك السياسة كونها بيعاً بالجملة لقطاعات هامة في الاقتصاد المصري لبعض المتنفذين، ونشأ تحالف غير مقدس بين البيروقراطية وأسوأ مكونات القطاع الخاص. ولم تنجح واردات النفط والغاز، ولا المساعدات الخارجية، ولا الدعم الأمريكي، ولا شهادات البنك الدولي، المجروحة أحياناً، في تغيير هذا الواقع.