سيدة نحيفة البنية تقية الوجه مصممة الملامح تطل عليك بوداعة وصدق ما يذكرك بغاندي، أغلط في اسمها دوما ساسو كيا أوانج أو شيء من هذا القبيل، لا تخرج من السجن إلا لتعود فيه أو ما يشبهه من الإقامة الجبرية، سألها البعض عن سر هذه الصلابة المشبعة بالتحدي، أجابت أستمدها من المعين الذي لا ينضب من الله القوي المتعال.

زوجها أصيب بالسرطان ودخل في سكرات الموت، أراد فقط توديعها بكلمات وهو يغرغر، ولكن جنرالات بورما لم يسمحوا بتمرير هذه الوقفة الإنسانية، فما لان لهم قلب، ولا نزلت منهم دمعة، كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون.

أخيرا ودع زوجها الحياة وودعت هي على طريقتها البوذية، أن كل العالم الذي نعيش فيه ليس دار القرار بل البوار، وإنما الدنيا جسر نعبر فوقه إلى عالم القرار.

أهم ما في هذه السيدة المميزة تبنيها بدون تردد طريقة غاندي في المقاومة، وهي روح جديدة بشرنا بها أنا وجودت سعيد منذ أكثر من ثلاثين سنة، ولا أدري من أين وصلت هذه الروح والوعي إلى جودت سعيد الذي يمثل اللاعنف في العالم العربي المليء بالعنف والإحباط؟ فقد كتب الرجل عام 1964 من القرن الفائت كتابه مذهب ابن آدم الأول في محاولة منه في توظيف النص الديني لتأسيس هذا اللون من الجدل الاجتماعي في أساليب التغيير الاجتماعي.

والسيدة البورمية عملت نفس الشيء وأسست حزبا فيه الكثير من البوذيين الرهبان، وقد حاولوا قبل سنوات التحرك في هذا الاتجاه من أجل تأسيس السلام الاجتماعي ومفاهيم وأساليب اللاعنف في التغيير؛ فأصيب الكثير من أتباعها قتلا وحرمانا وتشريدا فلم تيأس ولم تهن، ومع نهاية عام 2010م أطلق سراحها من جديد فدعت من فورها إلى عصيان مدني جديد فتعجبت أنا من صلابتها ووقوفها في جدار الحق.

وأظن أن تأثر جودت من مالك بن نبي الجزائري والصوفي جلال الدين الرومي والفيلسوف محمد إقبال كان له دور في تشكل هذا اللون من الوعي عند جودت سعيد، ولقد اختلط علي الأمر وأنا شاب يافع منذ أن بدأت رحلة الوعي والتدين، فكنا نحار في آيات القتال وأين نضعها ولم يكن ثمة من ثقافة معاصرة بين أيدينا تقوم بخلطة جديدة للفكر، وهو ما أسميه أنا نظام الفكر، ويسمونه الابستمولوجيا، ويشبه في هذا عندما ينظر أحدنا في السماء فيراها زينة للناظرين من مهرجان هائل للنجوم، ولكن الفلكي يراها في أنظمة، من شمس ونظام، ثم العناقيد والمجرات وعالم السدم، ومنذ القديم قام علماء بابل بوضع أنظمة في السماء مثل الدب الكبير والصغير، وهو ما يجب فعله مع الآيات بين قتال وسلم ودفع بالتي هي أحسن وفي قصة ولدي آدم شيء عجيب من عدم الدفاع عن النفس مع أنها غريزة في طبع الإنسان..

ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان طوال الفترة المكية يكرر جملة واحدة لم نؤمر بقتال، في شهادة واضحة على بناء المجتمع والسياسة سلميا..

حتى إذا ولدت الدولة برضا الناس صار من حقها وواجبها حمل السلاح لحماية المجتمع خارجيا وداخليا؛ فالعنف أو آلة العنف هي حكر ووظيفة الدولة، منذ أن تورط البشر في صناعة الدولة حتى يأذن الرب بالخلاص من الدولة أيضا.

فهي ليست قدر الشر الذي لا مرد له، وهو حلم الفلاسفة منذ قديم الزمان، وحلم الأنبياء بولادة الإنسان المحرر من علاقات القوة، الموحد للرب ذي القوة المتين.