يطمح المصريون أن ينفتح وطنهم على ضفةٍ أخرى من الحياة. كان البلد محكوماً بـ"أخلاقيات أمنية" على مدى ثلاثة عقود وقانون الطوارئ يشكّل أنفاس الناس وتصرفاتهم. مشكلة الأخلاقيات الأمنية أنها تحدد للناس الصواب والخطأ، وتقع في الغالب في أخطاء بالجملة، مع أنها تحاسب الناس على صغار الخطايا! اليوم يوشك هذا القانون على الذوبان ليدخل المصريون مرحلةً جديدة تذكرهم بحياة الفن إبان عهد الملك فاروق، حين كانت الشوارع المصرية تغسل كل صباح. حين كان المصري عنواناً للأناقة والذوق والخفة في التقاط النكتة، وإلى اليوم هو كذلك لكن الأخلاقيات الأمنية جعلته يخفي أو يقتل بعض مواهبه خوفاً على حياته وحياة أولاده.

كانت الأدوات الأمنية الحاكمة تبتز المصريين في ممتلكاتهم وأموالهم، وانتشار ثقافة "البخشيش" هو أحد تجليات الأخلاقيات الأمنية والفساد الإداري، لأن من يأخذ خمس جنيهات حتى يسكت عن وقوفك الخاطئ بسيارتك هو وجهٌ آخر لمن يأخذ مليون جنيه لتسيير رخصة أو عشرين مليون جنيه من أجل بناء عمارة أو عمولة مشروع. كل تلك الصور والمشاهد جاءت مع الثورة المشؤومة سنة 1952 والتي نتمنى أن تدحرها ثورة الشباب في 25 يناير، فيستقبل المصريون عهداً زاهراً يكون امتدادا لعهد الجمال في مرحلة ما قبل انقلاب العسكر الذي سُمي ثورة لإضفاء شرعية وبطولة عليه.

أخلاقيات ثورة 25 يناير جميلة وساحرة وآسرة، لم تسجل أي حالة تحرش، لا أحد يبتز الناس ببخشيش، كان الميدان بالفعل يعبر عن المستقبل الذي يريده الشباب لمصر. يصلي المسيحي مع المسلم والمسلم مع المسيحي، المحجبة بجوار السافرة، الإسلامي بجوار العلماني، الإخواني مع الوفدي، والشباب غير المؤدلج... كل تلك المشاهد تعبر عن الأخلاقيات التي سترسخها بعون الله ثورة الشباب الطامحين. وحين ذهب حسني مبارك أخذ كل شاب وفتاة "المكنسة" وبدؤوا ينظفون الشوارع بهدوء وأمن، كأنهم يكنسون تاريخ مرحلة ملئت بالحديد والنار، بالأمن السادي العابث بأجساد وإنسانية المصريين.

إن أوان نعي "الأخلاقيات الأمنية" التي زرعت قد حان. وليذهب المصريون بهذا البلد الجميل الذي كان حاضرة بلاد العالم الإسلامي بجماله وجلاله أن يذهبوا به نحو الزهوّ والحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان. وليس هذا بصعب فالمثقف المصري والمفكر المصري والأديب المصري أولئك النخب هم الذين نشروا الديموقراطية والفكر الحر والنقد البناء بين المسلمين والعرب، منذ محمد عبده إلى العقاد وطه حسين وسلامة موسى ونصر أبو زيد وإلى مفكري اليوم.

فلترحل الأخلاقيات الأمنية ولتبدأ أخلاقيات ثورة 25 يناير التي شاهدناها من دون تكلف على أرض الميدان بالتأثير والتغلغل!