عشت طفولتي في حياة مشبعة بالثقافة المصرية؛ فالأدب والفن والغناء والشعر وحتى مطبخنا كان مصريا. فكبرت وأنا أتتبع كل ما يخص مصر بشغف ويقظة. وفي الجامعة كان أستاذ الثقافة الإسلامية يردد: مصر هي المؤشر فما يحدث فيها سيحدث في غيرها من البلدان العربية تباعاً.
ثم عايشت مع أبناء جيلي انحدار الرمز المصري وانحدار كل ما يمت لمصر بصلة. الأدب والعلم والغناء، حتى وصل لقيمة الشخصية المصرية التي أصبحت في مكانة لا تحسد عليها. رموزها وإنجازاتها تهاوت ولحق الانهيار كل شيء فيها، فصار كل ما يخرج منها بائسا ومعيبا. فمن منا لا يذكر فضيحة الحفارة التي استخدمت في مترو الأنفاق ذات الأربعة أطنان وقد سرقت في ليلة واحدة وهي التي لا تتحرك في شوارع القاهرة دون تصريح وقبل الساعة الثانية عشرة ليلا نظرا لضخامة حجمها. ثم حديقة الحيوان التي كانت ثالث أفضل حديقة حيوان في العالم والتي بناها الخديوي إسماعيل، وقد أتى عليها فساد فدمرت حتى طردت من مجمع حدائق الحيوان العالمي، بعد أن كانت قبلة لعلماء الأحياء ينجزون فيها أبحاثهم.
كنت أتابع ما يكتب عن مصر بحزن فقد كانت ككائن جميل يحتضر، تعذيب في مخافر الشرطة، عنف ضد أطفال المدارس، غرق عبارات وانهيار مصانع وفساد استشرى كالسرطان. في برنامج أوراق مصرية أشاهد بمرارة البؤس والقهر الذي يتعرض له المصريون. ففي أحد البرامج حكى فلاح فقير كيف غرقت طفلته في البلاعة وحشر جسدها ولم يستطع أحد إخراج الجثة، توجه للمحافظ فوجده في حفل زفاف أحد أعيان القرية والموقع كله ملغم بالحرس عشان سعادة المحافظ، وعندما رفع صوته لمقابلة المسؤول ليوفد معه شخص يخرج الجثة، قال له الحارس "بص مش البنت ماتت، فمش ح يجرى حاجة إنك تستنى شوية وما تخربش على سعادة المحافظ الفرح". فسكت الرجل المكلوم واضطر أن ينتظر حتى ينهي المحافظ حفلته. تابعت القصة وسؤال يثقب عقلي هل يعقل ما يحدث في مصر؟ أما لهذا الليل من آخر؟
لكن كما يردد المصريون كل ليل وله آخر، فقد تفجر الغضب الذي أنار وجه مصر. لقد أظهر المصري حضارته في هدوئه وسكينته في ميدان التحرير حتى استعاد جزءا من حقه المسلوب. لا يمكن أن نصف فرحة العرب بمصر.. فهنيئا للمصريين هذه البداية لعهد مليء بالحرية والرخـاء.