للرقابة فلسفتها الخاصة، سواء كانت رقابة مالية أو رقابة أداء، كما أن لها خصائصها الاجتماعية التي تختلف من مجتمع إلى آخر، وأذكر في هذا الصدد أني في إحدى محاضراتي التدريبية استعرضت مع المتدربين التقرير السنوي لديوان المحاسبة البريطاني، وهو يعتبر أعلى جهاز رقابي للمملكة المتحدة، وخلال استعراض التقرير ظهرت عبارة في المقدمة لفتت انتباه غالبية الحضور، وهي عبارة "كلب الحراسة قيد الطلب" ، وقد أثارت هذه العبارة استنكار وغضب الجميع، إذ كيف يوصف جهاز رقابي بكلب الحراسة؟، مع أن المقصود بهذه العبارة أن الجهاز الرقابي يعتبر حامي المال العام وحارسه ، ويرمز إلى " الكلب" في ثقافة المجتمع الغربي بالإخلاص والوفاء.

وبالطبع أنا لا ألوم من استنكر هذه العبارة، لأن " الكلب" في ثقافة المجتمع لدينا ترمز إلى الحقارة والخنوع، لذلك تداركت الأمر وذكرت أنه يمكن تغيير العبارة إلى " الذئاب قيد الطلب "، وبالطبع نالت هذه العبارة استحسان الجميع!، والسبب أن " الذئب" في ثقافة المجتمع يرمز إلى القوة والشجاعة وعدم الخنوع فهو دائماً " غالب" بعكس "الكلب" الخانع "المغلوب".

والناظر إلى واقع العمل الحكومي يجد صراعا شخصيا بين المراقب والموظف الحكومي، فتجد على سبيل المثال أن "المراقب" قد يتفاخر بأنه استطاع جمع الكثير من المخالفات والأخطاء على الجهة الحكومية وأنه كيف استطاع بذكائه وقوة شخصيته أن يغلب الموظفين في هذه الجهة..هذا من جانب.

ومن جانب آخر، نجد أن الموظف الحكومي قد يتفاخر بأنه استطاع "تدويخ " الجهات الرقابية، و استطاع أيضاً خداعهم ومراوغتهم، وهذا ما يطلق عليه علماء الاجتماع بنزعة المغالبة، إذ يتخذ التعامل بين المراقب والموظف صورة المبارزة والمصاولة حيث يحاول كل فريق أن يخرج "غالباً" ويتألم إذا خرج " مغلوباً"، وهم جميعاً يبرهنون على أنهم كانوا في عملهم مخلصين بكل أمانة والله شاهد على ما يقولون!.

وأذكر في هذا الصدد نظرية لعلماء الاجتماع تقول : " إن كل فرد من الناس ينتقد الناس وكأنه ليس من الناس" ، ومن الخصائص الثقافية للمجتمع كثرة الانتقاد للغير، والبراعة في اكتشاف عيوب الآخرين، وفي نفس الوقت ومع حب الانتقاد للغير، يكره الشخص من ينتقده، والمراقب ينتقد الجهة الحكومية على سبيل المثال، فيواجه بالنقد أيضاً من الجهة نفسها، ويستمر الجدال على هذا النحو، ناهيك عن التركيز على التفاصيل غيرالمهمة وإهمال الأهداف الرئيسة.

والحديث عن الخصائص الاجتماعية والثقافية و الجدل بين الأجهزة الرقابية والجهات الحكومية يقودنا إلى الحديث عن فلسفة الرقابة وكيفية تفسير وتأويل الأنظمة والقوانين فيما بينهم؟.

فبعد فهم تأثير الثقافة الاجتماعية على السلوك الوظيفي بشكل عام، فإن هذا السلوك يؤثر أيضاً على أسلوب القياس المنطقي المستخدم في العمل الحكومي، وهو منهج الفيلسوف اليوناني (أرسطوطاليس)، وأهم الطرق التي يعتمدها المنطق الأرسطي هي طريقة (القياس)، والتي تتألف من ثلاث مكونات رئيسة وهي المقدمة الكبرى، والمقدمة الصغرى، ومن ثم النتيجة.

وفي العمل الحكومي تكون المقدمة الكبرى في الغالب نص مادة نظامية أو قانونية ويطلق عليها في الوقت الحاضر مصطلح " معيار" ، وتكون المقدمة الصغرى هي الحدث الحاصل وتسمى " الحالة" ، ومن ثم يتم القياس على هذا الأساس والمقارنة بين المقدمة الكبرى والصغرى لتحديد " النتيجة " والتي تسمى بالأثر.

وعلى هذا الأساس يتم الجدال بين الأجهزة الرقابية والجهات الحكومية بمنطق " آرسطوطاليس" ، وهذا المنطق يعتبر منطقا قديما لا يأخذ في الاعتبار الأسباب والظروف البيئية المحيطة، وهو يصلح فقط في العلوم الطبيعية مثل الرياضيات والفيزياء والكيمياء.

ولكن للأسف الشديد يتم استخدام هذا الأسلوب في تفسير الأحداث الحاصلة ومقارنتها بالأنظمة والتعليمات، وبأسلوب قد يكون مخادعاً ومضللاً في تأييد وجهات النظر، وتكون المحصلة في النهاية عدم العدالة وظلم الآخرين أو تمييع ونسيان القضايا المهمة.

لذلك تدارك علماء المراجعة والمحاسبة هذه المشكلة وتبنوا في العمل الرقابي تصاميم البحوث الاجتماعية التي لها جذور في أسلوب التجربة المستخدمة في اكتشاف القانون الطبيعي للسبب والأثر.

وللتوضيح أكثر أسوق المثال التالي: لنفترض أن وزارة العمل من أهدافها الرئيسة تخفيض نسبة البطالة، ولكن الذي حصل زيادة نسبة البطالة في إحدى السنوات، فبناءً على منطق أرسطو تكون النتيجة كالتالي:

ينص النظام على أن أهداف وزارة العمل تخفيض البطالة - مقدمة كبرى (معيار)

في هذه السنة زادت نسبة البطالة - مقدمة صغرى (حالة)

إذن فشلت وزارة العمل في تحقيق أهدافها - النتيجة (الأثر)

وبالطبع هذا الاستنتاج قد يكون مخادعاً لأننا لا نعرف بالتحديد الأسباب الحقيقية وراء زيادة نسبة البطالة، وهذا ما يحتم علينا دراسة الأسباب مع كافة الاحتمالات لتحديد العلاقة بين الأثر والسبب لتكون النتيجة كالتالي:

الحالة : زيادة نسبة البطالة

المعيار: تخفيض نسبة البطالة حسب الأهداف الرئيسة للوزارة.

السبب: وجود مشاكل اقتصادية ( يتم تحديدها ودراستها بشكل علمي)

الأثر : زيادة الفقر ( تتم دراستها بشكل علمي لتحديد العلاقة بينها وبين السبب)

أعتقد أن الصورة في النموذج الحديث للقياس أصبحت أكثر وضوحاً، ولكن يجدر التنويه بأنه يمكن استخدام النموذج الحديث في الخداع أيضاً إذا تمت الأمور بدون دراسة علمية وأدلة إثبات واضحة يتم اختبارها بعناية فائقة.

هذا باختصار شديد جداً عن فلسفة الرقابة، كان الهدف منها إعطاء صورة مبسطة عن كيفية العمل الحكومي والرقابة وتأثرها بالثقافة الاجتماعية السائدة، وفي النهاية أعتقد أن البعض يتفق معي في أنه قد حان الوقت في أن نتحول من ثقافة الجدل إلى ثقافة العمل، وأن نعيد النظر في بعض العادات والتقاليد الاجتماعية.