من أكثر المشاهد إثارة للاستغراب وأنا أتابع بعض القنوات الإخبارية قبل يومين، أي بعد ليلة واحدة من تنحي الرئيس مبارك عن الحكم في مصر، هو مشهد مسجل لجماهير إيرانية محتشدة في ساحة رئيسية في طهران ترفع العلم الإيراني والعلم المصري احتفالاً بالمناسبة. القناتان اللتان كانتا تبثان هذه الاحتفالية بسقوط مبارك هما قناتا "المنار" التابعة لـ "حزب الله" في لبنان وقناة "الجزيرة" القطرية. لكن كيف يحتفل الإيرانيون بتنحي مبارك وهم أسوأ تنمية ومعيشة من مصر؟ لو كان احتفالهم تأييداً لشباب مصر وتضامناً مع أهدافهم لفهمنا الوضع مع أننا سنستغرب نقل هاتين القناتين له، أما وأنهم يحتفلون بسقوط "الطاغية" هناك كما تردد شعاراتهم ولديهم طغاة بالقرب من الساحة إياها فهذا هو العجب العجاب. إذا أخذنا في الاعتبار الأسباب التي أدت إلى خروج الجماهير المصرية إلى ميدان التحرير، ما الفرق بين الشعبين؟ بل إن الشعب في إيران يعتبر في نظري أسوأ حالا من الشعب المصري بمراحل. إيران دولة يفترض أنها غنية بمواردها الطبيعية من نفط وغاز، غير أن نسبة الفقر هناك متغلغلة بشكل مرعب وتتجاوز نظيرتها في مصر، وهذا بسبب نسبة البطالة في إيران التي تتجاوز نسبتها في مصر. حتى فيما يتعلق بطبيعة النظام وشرعيته وأدواته القمعية فإيران أسوأ بكثير من نظام مصر السابق. إيران ونظامها المفلس في بناء الإنسان والتنمية البشرية المأمولة هو نظام قمعي متسلط وجاثم على صدور الشعب منذ أكثر من 32 عاماً. ملايين الإيرانيين المبدعين هجروا وطنهم إلى الخارج هروباً من بطشه وأصبحوا مواطنين جددا في أمريكا وأوروبا.
الحقيقة أن احتفال الإيرانيين يفترض أن يكون منصباً فقط على استبدال نظام الحكم لديهم هم، وهو النظام الذي يستمد شرعيته لا من مؤشرات النمو الاقتصادي ودخل الأفراد بل من ولاية الفقيه فقط. والحقيقة البديهية أيضاً هنا أن من قاموا بالتظاهر هم من أعوان النظام نفسه استجابة لإملاءات الحرس الثوري. يكفي للتأكيد على ذلك أن قناتي "المنار" و "الجزيرة" فقط هما اللتان تكفلتا بمشقة النقل الحي وبنوع من التطبيل والإعجاب. في القريب العاجل سيحتفل الإيرانيون بذكرى الانتفاضة الكبرى التي وقفت ضد النتائج الانتخابية التي أبقت على الرئيس أحمدي نجاد في الحكم لفترة ثانية وسنرى ما قد يحدث. هل سنرى التعبير الحقيقي أم الاحتفال المزور؟ ونسأل قناة "المنار": هل سيتم حجب "الحقيقة" مرة أخرى؟
الواقع أن إيران اليوم تعتبر دولة معزولة عن العالم بسبب سياسات حكوماتها المعتمدة أساساً على التدخل في شؤون الغير وأيضاً بسبب طموحاتها النووية. كما أشرت، نظام الحكم في إيران ومنذ عودة الخميني بعد سقوط الشاه هو نظام قمعي ويمارس وحشية بالغة القسوة ضد المعارضين له في الداخل، فبالرغم من تشدقهم بتبني النظام الديموقراطي في جهة نجد أن الولي الفقيه هو الوحيد الذي يقرر من يترشح للرئاسة ومن لا يترشح. علينا أن ندرك أن السبب الوحيد لبقاء النظام هناك طوال هذه العقود هو وجود هذا العدو الأجنبي "المختلق" وبشكل مستمر. كما هو معلوم، معظم الأنظمة الاستبدادية في أي مكان في العالم تلجأ إلى فرض وجود العدو المتربص حتى تضمن لنفسها أي قدر من الشرعية. وهذه حقيقة تنطبق ليس فقط على الأنظمة المستبدة بل وحتى على المنظمات والأحزاب التي لا تملك أي أدوات تنموية تتوافق مع تطلعات الناخبين. في المرة الأولى كان العدو هو صدام حسين. وبالرغم من تهور صدام ودخوله في حرب طويلة مع إيران إلا أن الأخيرة استفادت من الحرب لإطالة أمد البقاء وشرعيته. انتهت الحرب هناك ولم يعد يوجد أعداء وبدأ الشعب الإيراني يتنبه إلى شؤونه الداخلية. النظام يحتاج إلى عدو جديد. ما الحل؟ إسرائيل هي الأقرب والأكثر دغدغة لمشاعر المسلمين. اتجه إلى تقوية "حزب الله" والتحالف مع سورية وانضم بقدرة قادر إلى دول المواجهة. هذا رغم أن نظام سورية نفسه لم يطلق على إسرائيل رصاصة واحدة في منطقة الحدود في مرتفعات الجولان. أخيراً وللحاجة إلى استمرار وجود العدو الأجنبي بدأ بموضوع السلاح النووي عن طريق ادعائه الحاجة إلى الطاقة النووية السلمية. ها هو اليوم يتظاهر بمصارعة العالم و "قوى الشر" في الغرب حول هذا البرنامج لا لشيء من قبيل أنه سيستخدم هذا السلاح مثلاً لضرب إسرائيل وتحرير القدس الشريف، ولكن فقط حتى يضمن مدة بقاء أطول في الحكم.
السلام والهدوء والطمأنينة هي أكثر ما يثير الرعب لمثل هذه الأنظمة والأحزاب كونها ستنكشف على حقيقتها في أوقات السلام عندما يتساءل الناس عن الأوضاع الداخلية. أما في حالة "الحرب" فإن هذه المواضيع قابلة للتأجيل، ليس ذلك فقط بل إن الحديث عنها أو الاحتجاج بسبب تضخمها وضررها الذي قد يهدد الكيان برمته يعتبر خيانة وطنية. حدث ذلك قبل عامين تقريباً في إيران عندما بدأ الطلبة الإيرانيون في الاعتصام اعتراضاً على نتائج فوز أحمدي نجاد وطلباً لتحسن أحوال المعيشة وإعادة ترتيب الأولويات في بلادهم. اتتهم الهراوات وتم تصويب الرصاص الحي المباشر إلى صدور هؤلاء الضعفاء. هل يمكننا نسيان الوحشية الدموية التي أدت إلى موت الشابة ندا آغا سلطان في العشرين من يونيو 2009م؟ هذه الفتاة توفيت مباشرة إثر اختراق رصاصة مصوبة نحو رأسها بواسطة أحد أعضاء الباسيج. المؤسف أن هذه الفتاة لم تكن أصلاً من المتظاهرين وكانت تنتظر معلمها للموسيقى المشارك في بعض الأغاني الوطنية في الساحة داخل السيارة. أعياها الحر الشديد فخرجت لتتلقى بعض الهواء فقط لكنها تلقت الرصاصة وهي جالسة في زاوية قريبة من الجموع. لا أعتقد أن الإيرانيين سينسون هذه الفتاة بسهولة.
أقول في الختام: إن ما حدث في مصر يخص مصر فقط، وإن التسلق على هذا التغيير السلمي الكبير لا يجب أن يجير لأي مجتمع آخر وبالذات مجتمع إيران. الذي يجب على حكومة إيران الاهتمام به بدلاً من التطبيل لما يحدث في الخارج هو الشعب الإيراني المغلوب على أمره. إن تمكنوا من إعادة ترتيب الأولويات لديهم بحيث تتوجه التنمية الحقيقية نحو أبناء وبنات هذا الشعب العريق فسيستمر نظامهم، أما إن فشلوا في هذه البديهية المأمولة وانتهت قائمة الأعداء المفتعلة فمصيرهم لن يكون مختلفاً عن مصير أي نظام مستبد آخر.