ستون عاماً وهي تجاهد كل لحظة من مفارقات ومفاجآت رحلة السنين وتقاوم كل صباح ما يمكن لأشعة شمس اليوم الجديد أن تأتي به. كانت فاتنة الجمال وكم هي طبائع الدهر التي تختار الفاتن الجميل لتختاره لأعاصيرها معملاً للتجربة. كم هي حظوظ بعض الورد القاني لينبت وحيداً في مهب الريح وكأن مهمة الريح أن تبعثر أوراق الوردة في سباق مع الزمن وفي أقل من ساعة ممكنة. وكل القصة مع الجمال وظروف الدهر، ومع وردة – الأراكودا – وزمهرير الريح. وقبل ربع قرن من الزمن بالتحديد، وذات ليلة شتاء سوداء في ظلام مقتبل الشهر ودعت زوجها وكانت تشاهدهم منتصف الليل الحالك من نافذة بيت الطين الحزين وهم يهيلون التراب على البقايا الأخيرة من بداية النهاية لوردة الأراكودا المفترضة. نثرت دموعها على الأطفال النائمين في جوف ليل مخيف، وهل هناك على الأرض من صورة مخيفة أبلغ من تلك التي يجتمع فيها الموت والقبر على سفح جبل أسود منتصف الليل الأسود وفي قرية جبلية؟ أدركت أن على الوردة أن تتحول من الصباح إلى رَجُل. لم يعد للورد من مكان ولم يبق للجمال والألق الفاتن من عينين أو مرآة. ربع قرن من الزمن وهي تصب الماء على جذور الأطفال في كل نجاح الخريطة. كبروا ونجحوا وشاهدت آثار الماء والدموع على رجالها وبناتها وهم يكبرون وينجحون وظنت أن اللحظة قد حانت لتختبئ الوردة من الريح في ظلال هذه الأشجار الباسقة.
كيف ودعت وردة الأراكودا هذه الرحلة؟ كانت صدفة مثيرة أن تذهب مدعوة لحفل زفاف عائلي في المدينة البعيدة. كانت تزهو بخيلاء مثل بقايا خيل قديم وهي تقبل عشرات رفاق الرحلة منذ طفولة الرضاع. منذ أيام الصبايا على (بئر الحمراء). منذ ضحكاتهم في مراهقات (المصناعة). منذ المناديل الصفراء في (ساحة المسجد) ومنذ زمن الراعي في (لعين والحايب). شاهدت كل أصفياء رحلة الورد. رمقت بناتها في حفل الزفاف يرقصن مثل الأراكودا الجديدة على أنغام الخطوة. شاهدت كل الرحلة في ليلة واحدة. فجأة شعرت بالإعياء. قالت: أنا بخير ولكنني أريد أن أنام. ثم نامت للأبد وفي الصباح كانوا يهيلون التراب على الوردة. كل هذا الجمال في جسد عسجدي وفي وجه أخت قمري يذهب للدود في جوف قبر.