في حياتي، ومن بين آلاف الصور، يبقى في ألبوم العين منها ثلاث يصعب أن تغمض أمامها رمشا. صورة محمد الدرة وصورة طفل الرياض الذي أخذ الإرهاب ليلة المحيا كل عينيه وصورة المرأة السودانية التي تهرب من جلادها، وكأن هذه هي طريقة هذا الدين العظيم في إقامة حد. وفي الصور الثلاث يجتمع النقيضان بكل قسوة. يواجه الجبروت والقوة قمة الضعف، وفي الحالتين عن عمد مع الإصرار وسبق الترصد. طفلان وامرأة بلا حيل أو ظهر. في صورة محمد الدرة كان الأب، لا الطفل، هو المأساة التي يجب على كل عين أن تحاسب ضميرها إن لم تدمع وأن تراجع رصيدها الإنساني إن لم تبك معها تلك اللحظة وكل لحظة. أب يحاول أن يدفع الرصاص عن ابنه بكفيه، ولاحظوا كيف كان الأب يحاول أن يضع يده على رأس ابنه وكأنه إنما يحاول أن ينحرف وابل الرصاص بزاوية حادة. كانت قمة الضعف وذروة المأساة، والمؤلم جداً جداً أن الأب لم يفارق الحياة حتى ينهي هذا العذاب النفسي المخيف الذي سيبقى معه وعاش بعدها، ومثلنا، سيتفرج على الوداع الحزين ـ لمحمد ـ على آلاف المقاطع والصحف والقنوات. قمة الإنسانية لو أن الأب مات، فأي حياة لأب بعد هذه الصورة؟! صورة طفل الإرهاب الأعمى تأخذ بالألباب ولو أن لنا ـ لبا ـ أو طريقة لأخذنا هذا الطفل العربي المسلم إلى كل مدرسة وكل منتدى واجتماع شبابي حتى يعرف كل طفل وكل شاب، وكل متعاطف أو محرض أو ممول كيف ينقضي الجبروت إلى عيون طفل في ليلة رمضان من وقت السحر؟ كيف سيقضي هذا الطفل بقية الحياة الطويلة جداً في الظلام؟ وكيف يستطيع أن يتلمس وجهي والديه؟ كيف سيراقب ألعابه وكيف سيفتح صفحات القرآن الكريم؟ وكيف يتدبر أموره كي يتوضأ؟ هؤلاء هم المجاهدون الذين تجاسروا على عيون طفل. وتبقى صورة المرأة السودانية موضع الجدل. من هو الذي سيجرؤ أن يقول ـ لا ـ أمام حدود الله أو في وجه العدالة وحكم الشريعة؟ ولكن: أين نحن من سيد الخلق عليه أفضل الصلاة والسلام وهو يلتمس للزانية أن تهرب من الحد؟ وأين نحن من رحمته وسماحته فلا نجد لإقامة الحدود إلا عصا ـ الكرباج ـ الطويل ـ ومن هو بيننا ذاك الذي يعيش بلا خطيئة؟ لست أدري لماذا مع هذا الزمن الطويل لا أستطيع نسيان هذه الصور، ولكن: للعيون متحفها الخاص، وطبع المتاحف أن تحتفظ بالمأساوي العتيق القديم. لا أعلم ما الذي حركني اليوم للكتابة عن هذه الصور. ربما لأنها معي على الدوام على أطراف الحدقة.