من أغرب الأشياء أن أعظم رجلين في فرنسا - القرن الثامن عشر، الفيلسوفين الكبيرين: جان جاك روسو وفرانسوا ماري فولتير، ولدا في ظروف متشابهة، كلاهما فقد أمه طفلاً، كلاهما ولد بجسم عليل وشارف على الموت في صغره، كلاهما كان في غاية الهزال، لكنهما عاشا عمراً طويلاً، كلاهما اشتغل بالفلسفة دراسة وتدريساً، وكلاهما تنبأ بحدوث الثورة الفرنسية التي غيرت نمط الحياة في أوروبا والعالم الغربي بأسره للأبد، والتي لم تحدث إلا بعد وفاتهما بأحد عشر عاماً، فكلاهما مات في عام 1778 للميلاد. يبدو أن فولتير قد صدني وقتاً طويلاً بسخريته اللاذعة عن القراءة لروسو، فالمهتمون بقراءة كتب الفلسفة وقضايا التعبير والكتابة يحفظون تلك المقولة الساخرة التي ضرب بها "فولتير" عصفورين بحجر واحد، عندما قال لجان جاك روسو: "لقد تلقيت كتابك الجديد يا سيدي، والذي تهاجم فيه المدنية والعلوم والآداب، وأشكرك على إرساله. لم يقم أحد بمثل هذه المحاولة التي تحاول فيها تحويلنا إلى وحوش وحيوانات".

وقال له أيضاً "أنا لا أتفق معك في كلمة واحدة مما قلته، ولكني سأدافع عن حقك في الكلام وحرية التعبير عن أفكارك حتى الموت".

وكتب إلى مدام بوردي يقول: "إنك ترين الآن، أن روسو يشبه الفيلسوف كما يشبه القرد الإنسان". لقد استطاع فولتير أن يصد كثيرين بهذا الهجوم الشرس على روسو، برغم أنه غلّـف هجومه بدعوى الدفاع عن آراء روسو. ولا شك أن الدافع هنا هو الحسد المحض وروح التنافس التي تشتعل بين الأقران عندما يشعر الواحد أنه أمام منافس قوي. لا أنكر الدور الكبير الذي قام به فولتير في معركة التنوير، لكنني اليوم وأنا أقرأ التراث الكبير الذي تركه روسو أستطيع أن أقول إن روسو بحساسيته وخجله وطيبته وجنونه كان أعظم بكثير من فولتير. وقد شكا جان جاك روسو في كتابه "اعترافات جان جاك روسو" لأحد أصدقائه من فولتير وطريقته العنيفة في التعامل معه ومن حقده الأسود عليه.

ألف روسو كتاب "إيميل" الذي يتحدث فيه عن التربية الصحيحة للطفل، فكان كتابه الشرارة التي انتقلت منها كل دول العالم لتأسيس "وزارة للتربية والتعليم". وألف كتاب "العقد الاجتماعي" الذي كان إنجيل الثورة الفرنسية كما يصفه المؤرخون، لدرجة أن الفرنسيين أيامها كانوا يقرؤون نصوصه في الشوارع والأزقة في مجموعات صغيرة. وفي أواخر حياته، كتب روسو اعترافاته التي ذكر فيها سيرته بكل صراحة، برغم ما تحتويه من مواقف محرجة وقعت له وكان تصرفه فيها مخجلاً، لكن لفرط صدقه أراد أن يخرج كل تلك الأشياء من صدره.

و ذكر في تلك المذكرات قصة حبه الكبيرة لمداد فاران والتي ظل يلهج بذكرها في تلك المذكرات، بل ولآخر لحظة في حياته. كتب تلك الاعترافات على مدى خمس سنين من 1765 حتى 1770. وهذه الاعترافات بدورها كان لها دور كبير في تعليم أجيال من الكتاب الفرنسيين كيفية الكتابة الأدبية الشفافة، خصوصاً، الكتابة الرومانسية، يدخل في هؤلاء لامارتين وفيكتور هوغو وأسماء كثيرة.

وقد كانت فرنسا ولا تزال تعرف الفرق بين الفيلسوفين الكبيرين، ولمن زيادة الفضل، ولذلك أقامت له تمثالاً في عام 1790 ثم كان تمثال فولتير في 1794 بعده بأربع سنوات. كان الكل يعرف فضله، حتى نابليون بونابرت نفسه. وفيهما يقول الشاعر الألماني غوته: مع فولتير هي دنيا تنتهي ومع روسو هي حياة تبتدئ.