كان معالي المهندس محمد سعيد فارسي، أمين جدة الأقدم الأسبق، بطلاً شعبياً في الذاكرة وهو يضع اللمسات لأول مدينة جمالية. كانت ذاكرتنا بالغة البساطة مثل دهشتنا الفارطة ونحن نقف أمام مجرد شارع مرصوف وكورنيش مليء بالمجسمات. كنا جميعاً مع معاليه نقرأ علم ـ الهندسة ـ بالمقلوب: ألوان الأرصفة وطلاوة الأسفلت تأتي قبل البنية التحتية. وشق معالي الأمين الفارسي لنا قبل ثلاثة عقود أطول وأجمل وأعرض وأفخم كورنيش لمدينة عربية وخطط أو رسم بالأدق، محاور الطرق الكبرى بالمدينة وبالطبع ستطارد الأحياء والمباني هذه الشوارع الفارهة ولكن! اكتشفنا أن معالي المهندس الأمين قد نسي أن في السماء غيوما وأن في مطابخ البيوت ودورات مياهها أطنانا من المياه التي لن تجد لها من المخارج إلا بطون هذه الشوارع. وكانوا يقولون ـ هندسياً ـ إن جدة بطحاء تشرب المياه وقد سمعت بأذني مهندساً آخر يقول إنها تكوين ـ إسفنجي ـ يمتص السوائل وكأنهم يتحدثون عن هندسة أقمشة لا عن مدينة بها ثلاثة ملايين ساكن وكل منهم يستهلك ربع طن من المياه في اليوم الواحد في مدينة برهنت أنها لا تتحمل أطنان ماء شاردة في غيمة رمادية ليوم واحد من العام. ونحن اليوم نقطف جناية هذه الأفكار الهندسية وما فعله الفارسي بالمدينة ليس بأكثر من القدوة التي نافسها من بعده عشرات الأمناء والتنفيذيين في الأمانة الذين جاؤوا من بعده. كلهم اهتموا بالجماليات وشق الجسور والأنفاق ورصف الشوارع ولكنهم جميعاً كانوا متيقنين أن المدينة لا تحتاج لبنية تحتية. اليوم اكتشفنا أن مدينة جدة تحتاج فعلاً إلى حالة إنقاذ طارئة عاجلة بالمليارات لترقيع أخطاء هؤلاء المتراكمة فما هو ذنب بقية المدن والمناطق حين تستنزف هذه المليارات من أجل جبر جناية الذين مروا على هذه المدينة. من أجل أن نرمم أخطاء الأفراد الذين مروا على المدينة لأربعة عقود حتى صدقنا معهم أنها ـ العروس ـ وإذا بهذه العروس مجرد مكياج على حسناء ترفع أطراف ثوبها من المستنقعات وتمشي حافية القدمين. كان الله في عون خالد الفيصل وهو يأتي لهذه التركة المهلهلة في وقت متأخر.