يشبه خبير اللؤلؤ البحريني وصاقل الألماس الهولندي، فيقلب الكتاب بسرعة وفي دقائق؛ فيقول يبدو أنه دسم فلنتجرأ ونشتري، مع هذا فكثرة الكتب ليست الدليل على سمو التفكير، ومن ملأ بيته بكتب السحر تحول إلى ساحر، وبيت الإنسان مؤشر عقله، هل فيه مكتبة وكتب؟
وإن كانت، فهل هي مذهبة الأعقاب جيدة التصفيف؟ أم إنها منوعة الأحجام والألوان، فيها من الأسماء الأجنبية أكثر من العربية؟
لقد عمد البعض إلى وضع ورق جدران على شكل كتب بدون كتب، وفي القرآن الحمار الذي يحمل الكتب على ظهره لا يستفيد منها.
قال الله تعالى: (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين).
وفي القرآن تتعدد الأمثلة بين الحمار والكلب والبعوضة والنحلة والذبابة، بين حمار ينهق فيقلق، وكلب يلهث إن حملت عليه أم لم تحمل، وبعوضة ليس في سلم المخلوقات ما هو أدنى منها فيضرب الرب المثل في بعوضة فما فوقها، ونحلة تأوي إلى الجبل ومما يعرشون يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس وذبابة نحتقرها يتحدى الرب البشر أن يخلقوا مثلها أو بعضا مما سلبت لينتهي بجملة مزلزلة.. ضعف الطالب والمطلوب.
أهمية الأمثلة هي النزول للطبيعة وتحريكها أمام العقل ليتأمل، كما رأى ذلك فيلسوف التاريخ شبنجلر أن الكل يرى في الجزء والمعجزة في أبسط أشكالها وأبسط الإنتاج يدل على المصنع، وليس ما حدث لجماعة شهود يهوه الذين يزينون لأتباعهم أن ضرب الأمثلة مكان ضعف في القرآن كما قرأت من كتبهم أثناء تواجدي في ألمانيا فقلت الإنسان عدو ما يجهل.
والقرآن يجيب فيقول ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا..
خبرة معرفة الكتاب تأتي من خبرة طويلة وتمحيص آلاف الكتب من ذخائر الفكر الإنساني المنوع بالطول والعرض والعمق، يصبح المتمرس خبيرا ماهرا يعرف دسامة الكتاب من ركاكته وتهافته.
أذكر نفسي جيدا في مسجد الفرقان في حلب حين وقع تحت يدي كتاب محنة ثقافة مزروة فقرأته في ساعات في أقل من ليلة واحدة.
وفي باريس وقع تحت يدي كتاب باتريك سيل عن سورية الحديثة وهو 800 صفحة فتركت كل شيء وقرأته في يومين وكان أعجب ما وقع لي حين قرأته في سورية فكأنه ليس ما قرأت في باريس لأكتشف أن 200 صفحة منه حذفت ولا أعرف ما أضيف، ووقع تحت يدي يوما كتاب شينتارو أيشيهارا عن اليايان، إنها تقول لأميركا لا، فقرأته في يومين. وهكذا تنتزع الإنسان من هدوئه تلك الكتب الرائعة. ويقول أيمانويل كانط فيلسوف التنوير الألماني إن كتاب هيوم هزه من سباته العقائدي فلم يعرف النوم بعدها إلا في شاطئ الزهايمر فخَّرف ونسي ولم يعد يعرف أقرب الناس إليه.
وأنا رجل أؤمن بذخيرة الفكر وأنه يجب تنميتها دوما، ولذا أراجع الإفكار الجيدة من الكتب الجيدة دوما، واليوم كنت أقرأ في كتاب ساعات القدر للمؤلف النمساوي ستيفان زيفايج عن الساعات الحرجة التي قررت مصائر أمم وشعوب ومعارك، فقرأت خلاصة أفكار من الصفحة الأولى وهي عادتي مع الكتب الجيدة. وكتاب ساعات القدر يروي 14 قصة من الساعات الحاسمات في تاريخ الإنسانية، ولقد أضاف لذخيرتي من أسرار التاريخ الشيء الجديد، وعرفت مثلا سر سقوط القسطنطينية بيد العثمانيين من باب مهمل كيركا بورتا، وقصة سايروس فيلد الذي ربط أوروبا بأميركا بكابل تحت البحر الأطلسي في ملحمة من أعظم ملاحم التاريخ فشل فيها عدة مرات ولكنه نجح في الأخير.
وكذلك سر هزيمة نابليون في واترلو من الجنرال غروشي الذي لم يحسن التصرف، فخذله في ساعة العسرة، فلم يحسن في تعقب الجيش البروسي الفار ولم يلتحق بالجنرال ناي في الساعة الحاسمة من المعركة في الوقت الذي كان الجيش الروسي يلتف ويلتحق بولينجتون فيهزمان أعظم قائد حرب في التاريخ. أو ذلك الفريق الذي اكتشف القطب الجنوبي وما خط سكوت من كلمات خالدات في اللحظات الأخيرات...
"ألا فهلمي أيتها العناية الإلهية لمعونتنا فقد انقطع رجاؤنا من البشر... فلترسلوا هذه المذكرات إلى زوجتي... أرملتي".
من امتلك خبرة قلب الكتاب في دقائق ثم قال هنا علم يجب العكوف عليه.