كل شيء يتغير في العالم العربي، الأفكار، الناس، الشعارات، والأحلام أيضاً، فالعصر يفرض شروطه، ويُعلن موت النواميس القديمة، ويفض بكارة الأشياء التي لا تُمس، أو بالأحرى التي أُريد لها ألا تُمس.

القادمون الجدد يعلنون ألا مكان للعادية والتشابه، والبشر الذين يؤمنون بحياة السلاحف، القطار يسير بسرعات ضوئية.. شرعية الزمن تفقد وهجها لمصلحة العصرنة والتحديث والأفكار الطازجة، الماضي القريب يبدو مجرد ذكريات شخصية من حق الأفراد أن يحنوا إليها، لكن لا قيمة لها في الوعي الجمعي للشعوب، التاريخ الجديد يُكتب على الشاشة، يقطر ندياً بالحروف والكلمات، تُبارك الموقف، تستسيغ السعي الإنساني للحرية، وتتحفظ على بعض البعض، تطاردك الدهشة وتأخذك من تلابيبك كي تزرعك في عمق الذهول، فتسأل نفسك: هل هذا هو العالم العربي الذي أعرفه؟ تفتش في أوعيتك القديمة، تبحث عن إجابة تمكنك من الحياة مجدداً، تقلب في دفاترك المهملة فلا تجد إجابة مقنعة منذ عقود، تجتهد مخلصاً في جمع الخيوط بين يديك ومحاولة وصلها ببعضها، لكن لا فائدة مرجوة من السير عكس التيار، تتهالك أمامك عصور الديمومة، تذكرك أن الأرقام من حولك لها دمع، ولها دماء تسيل، ولها نهاية آن أن تكتب: "48م ــ 67م ــ 82م ــ 2003م ثم 25 يناير". العرب يواصلون سياسة التحليل، أو تحليل السياسة، يقتربون جداً من عاهاتهم المستديمة، فيتذكرون ضياع القدس، أحمد سعيد، محمد سعيد الصحاف، وجه صدام قبل الشنق.. كل محتويات الذاكرة تشرب نخب الوسوسة، تحاول أن تفهم، أن تستدرك أو تسترجع، لكن المعضلة الحقيقية أن ما يجري في الشارع اليوم شيء مختلف تماماً، لا متحدث رسميا، لا قائد يُحمل على الأعناق، ولا حتى عنوان بارزا!

الفيسبوك والتويتر يفتحان على الناصية، يُلغيان نواميس الحياة خطوة بخطوة، ويقودان الثوار.. الأحداث لا تحتاج لشرح على السبورة، ولا حتى طباشير ملونة، فالأدوات طازجة وسريعة وعصرية: كيبورد، رسالة جوال، وميدان تلتقي فيه بأصدقائك الذين يشاركونك الرأي واللغة، والتفكير الذي لا يعترف بعنق الزجاجة، وقتك البليد يهرول بعيداً، عصور الديمومة في حالة ذهول ما قبل الموت، أوراق دفاترك تتعرض للمرة الأولى للريح، الوهج يُعمي العيون، ولا أحد يستنطق الأكمة، أقلام الرصاص تعود شابة، تبحث عن ورق صقيل يحتمل الكتابة، ووطن بالألوان والزغاريد.

الجميع يطالبون المساحات بالتقاعد، وكرة الثلج تنزلق من كف إلى كف، ومن ميدان إلى آخر، وعليك أن تعرف السبب، أن ُتلم قدر إمكانك بالحدث النادر، تعود إلى الشاشة التي تركتها قبل خمس دقائق، ترضى بالبقاء معها معتقلاً حتى ينصاع زمنك، التفاصيل تغزوك بصور لم ترها من قبل، الشباب الجدد يتقاسمون الماء والتمر والمواقف، كهنة الأحزاب القديمة يعيدون قراءة كتب الحرية، وأبجديات الضوء في آخر النفق، يتهجون لغة الشباب، فالعربة حين تنطلق غواية وإغراء وصناعة غد.

الأحزاب العتيقة تحك جلدها بعظمها الناشف ثم تقدم الوجبة في فرمان، مجرد فرمان أصفر كما جرت العادة، أو خطاب مقلي بعرق الشعوب، لكن لا فرمانات تشكل الفارق، لا خطابات تقنع الميادين أن تكف عن القيام بدور العاصمة، الفيسبوك يهيمن على الحزب، يكسب الأصوات بأغلبية طاغية، صناديق الاقتراع تفلي نفسها من بقايا الشعوذة، العربة الجديدة لا تسأل عن لون ركابها وأعمارهم وشكل مواقفهم السابقة؟ ومع من كانوا؟ فقرارها الأول والأخير: أن تكون لكل الشعب وباسم الشعب، يختلط الورد بالأفيون بالحشيش بالتراب، والفواجع القادمة لا تخطر على بالٍ قديم، العرب يتسمرون أمام الشاشة، خيول تعبر وإبل تترنح وسط الطريق، لوحات تشكيلية تُرسم على خطوط المشاة، قصائد تكتب ثم تلحن وتُغنى في نفس اللحظة، لا بالروح ولا بالدم، لا من أجل رأس كليب أو كرامة جساس بن مرة، بل بنشوة الحياة، ولا شيء غير الحياة.

الحجارة تحاول أن تُسقط عذوق البلح، البدن العربي مثخن عن آخره بالجراح، لكن كيمياء التوافق تغسل الجسد الذي أريد له أن يتحول إلى جثة منذ خمسين سنة، عصور الديمومة تتشبث بالأمل، وتعد بصناعة صندوق اقتراع، ومواطن حر، ثم ترجو وقتاً للتغيير، لكن عقارب الساعات الشابة مضبوطة على آخر صيحات الميدان، والفيسبوك، والتويتر.