عادة ما ترتهن الشعوب في الأزمات إلى ذاكرتها، تفتش وتنقب فيها عن كل ما ينفس همها وكربها، وبقدر ما تكون تلك الشعوب مثقفة ومتحضرة، بقدر ما ينعكس ذلك الثراء على مستوى بوحها وشجنها وغنائها، وحتى رقصها.

ولعل من يتابع مسرح ميدان التحرير في مصر المحروسة - حماها الله - اليوم في ظل الأحداث السياسية التي تعيشها، يجد نفسه أمام مسرح شعبي وكرنفال ثقافي قل نظيره في كثير من البلدان.

فبمجرد أن هدأ أزيز الرصاص وخفت حدة العنف التي شهدتها شوارع القاهرة، وميدان التحرير على وجه الخصوص في الأيام الأولى التي واكبت احتجاجات الشباب بدأ المشهد السياسي يتحول وينقلب شيئا فشيئا إلى ما يشبه مسرحاً رومانياً أو "شكسبيرياً" مفتوحاً تقدم على خشبته كل أنواع الفنون من شعر ومسرح وخطابة، وموسيقى وغناء ورقص.

وباتت مصر بكل أرشيفها وذاكرتها وإرثها الجميل حاضرة أمام عدسات العالم، ويمكن للكاميرا أن تنقلك عبر دقائق بسيطة في أكثر من زاوية من زوايا ميدان التحرير في قلب العاصمة المصرية كي تقف على "زجال" يترنم بأبياته الشعرية، التي عادة ما تجسد هموم المواطن المصري البسيط الذي يريد تحقيق طموحه في الحصول على وظيفة، فيما ينقلك مشهد آخر وسط تلك الهتافات والحشود إلى مجموعة تترنم على أنغام عبدالوهاب وفريد وأخرى فضلت أن تبث شجنها بين الجماهير من خلال تلاوة النكت الساخرة، ذلك الفن الذي نجحت الشخصية المصرية من خلاله في تضميد كثير من جراحاتها، ولم يخلُ المشهد بطبيعة الحال من موائد النقاش المستديرة التي لا تهدأ وتيرتها بين المتظاهرين.

وظل مشهد الشعارات التي يحملها ويتلوها المتظاهرون واحداً من أكثر المشاهد التي تستحق الوقوف والالتفات، وبعيداً عن مضامين تلك الشعارات السياسية فهي تكشف عن قدرة المصريين الفائقة في كتابة اللافتات المؤثرة والفاعلة بأقل الكلمات، والجمل، ما يؤكد الحالة الثقافية الأصيلة التي عاشتها صاحبة مطبعة بولاق الشهيرة التي أنشأها محمد علي عام 1820 وتعد أول مطبعة حكومية تنشأ على الإطلاق في مصر، وقد أحدثت حينها نقلة علمية كبرى في المنطقة العربية بأسرها، وخولت مصر في فترة مبكرة أن تؤلف ليقرأ كل العرب.

نعم.. لقد كشف ميدان التحرير رغم حالة الوجع التي يموج بها عن ذاكرة مصر الممتدة وشعبها الطيب، ومكانتها الريادية في وجدان الشارع العربي، وأحقيتها في قيادة الحراك الثقافي، رغم كل الظروف التي مرت بها المحروسة (حماها الله)..

وعمار يا مصر.