طالعنا ما حدث في تونس ثم ما حدث في مصر من ثورات شعبية عارمة، وما من أحد إلا وله قراءة خاصة في هذه الثورات وقليل منها تناولت ما بعد الثورة، فأما القراءات التي تدور حول الثورة نفسها فأغلبها تمجيد لهذه الثورات وداعمة لها ومؤيدة ومستبشرة وهي تستحق ذلك بالفعل لأنها المرة الأولى التي تقول بها الشعوب العربية كلمتها منذ فترة الاستعمار، وأما التي تتناول ما بعد الثورة فمترددة بين نظرية المؤامرة ذات البنية الراديكالية من مثل أنها بداية لتقسيم المنطقة، أو قراءات نكوصية كتلك التي تقول إنها بداية فوضى أو إنه لا يتوقع لها النجاح أو إنها بداية لسيطرة قوى سياسية معينة كيسارية أو طائفية أو غيرها، ولن نبحث في صحة هذه التوقعات وإنما في إمكانية وقوعها فهذه الاحتمالات تصح مع أنظمة الحكم التي تستأثر بالسلطة التي أسقطتها هذه الثورات، فأصحاب تلك التوقعات ما زالوا على النتائج السياسية التي لا تحدث إلا مع الأنظمة المعروفة حاليا، أما حينما يكون النظام السياسي معبرا عن إرادة الشعب كما هو الحال مع الثورات الجديدة فلا محل لتلك التوقعات أصلا لأنها إن حدثت فسترفض من قبل الشعوب وستنفذ الحكومة إرادة الشعب أو على أقل تقدير تتم مراعاة الميول الشعبية لأن الثورات الشعبية أصبحت سهلة والحكومة الجديدة ستحسب ألف حساب للثورات الشعبية حتى وإن قيل إن هناك أصابع حركت هذه الثورات فهذه الأصابع التي حركتها لا تستطيع الوقوف في وجه إرادة الشعب في حال تنفيذ تلك المخططات خاصة وأنها قد علمتها في نفس الوقت طريقة الخروج والتي وإن لم تنجح فستصبح مصدر قلق للحكومات على أقل تقدير إذا افترضنا أن هذه الحكومات انتكست ولم تعد تعبر عن إرادة الشعب.

إن الزمن القادم هو زمن الشعوب بل ربما يكون زمن الشباب الصغار لأن من قام بهذه الثورات شباب في مقتبل العمر وليس النخبة أو أهل الحل والعقد حتى يمكن السيطرة عليهم واحتواؤهم فهؤلاء تبعوا الشباب في ثورتهم وليس العكس، فلأول مرة في تاريخ الدول يبدأ شباب صغار بإحداث الثورة ثم يتبعهم الكبار من المفكرين والمثقفين والساسة وقيادات الأحزاب بل حتى إن قرارات أولئك في خضم الثورات الشبابية لا أثر لها وهذا كله يجعلنا نعيد النظر في كيفية إشراك هؤلاء الشباب في صناعة القرار ولو على مستوى شعبي بسيط وليس فقط إشراك الشعب إذ لا يشترط أن يكون تمثيلا سياسيا كبيرا لهؤلاء الشباب وهذا من أهم الخطوات خاصة إذا ما علمنا أن الأمر لا يحتاج أكثر من فيسبوك ثم خروجا للشارع إذا ما أرادوا الثورة.

إن الجميع يدرك أن هناك موجات إصلاحية قادمة تفاديا لهذه الثورات ولكن ينقصها الشعار المرافق لها، والأنسب هو شعار التوبة السياسية ولا يكفي ترديد "الإصلاحات" فالشعوب لن تنتظر هذه الإصلاحات ليس لكونها بطيئة وإنما لكون تلك الأنظمة لا تحظى بمصداقية لديهم فالمعضلة الرئيسية الآن هي كيفية إقناع الشعوب بصدق هذه الإصلاحات فقد عاشوا عقودا من الإعلام المضلل ولن يقنعهم شعار ذو طبيعة إعلامية يرفعه هذا الحاكم أو ذاك كتغيير الحكومة أو بدء مسيرة الإصلاح بل حتى تنحي رئيس الدولة غير كاف إذا كان بقية أطراف الحكم متواجدين، مما يعني صعوبة الإقناع إلا مع استحداث لغة خطابية جديدة علها تقنع الشعوب بالتغييرات مع ضرورة أن تلمس الشعوب هذه التغييرات بشكل عاجل حتى لا يتحول هو الآخر لشعار إعلامي، فالإقناع بالتغييرات الجذرية أهم من التغييرات نفسها فعدم الاقتناع هو ما يجعل الشارع يثور فمثلا لم يقتنع الشعب المصري بتغيير الحكومة لأنها أتت بعد بداية الثورة ولو أتت بعد سقوط زين العابدين في تونس مباشرة وقبل اندلاع الثورة المصرية لقل الأثر.

إن دخول هذه الثورات لعدة دول عربية تجعل الدول المجاورة لها والتي لم تصلها هذه الثورات الشعبية في موضع قلق فلا يمكننا أن نقول عنها إنها في مأمن لأن تلك الدول سترى أنه من الواجب عليها التدخل لفرض الحرية والمشاركة الشعبية لإخوانهم العرب خاصة مع التذكير أنها تعبر عن إرادة الشعوب، سواء من خلال إيجاد فصائل مندسة تابعة لها أو عبر التسلل أو أي طريقة ومن ثم إثارة القلاقل وفي هذا ضرر بالغ لتلك الدول، وبعضها قد ينفذ للدول الغنية في المنطقة تحت شعار فرض الديموقراطية والحرية للاستفادة من موارد هذه الدول وهذا ما يحتم عليها أن تكون أسرع في عملية الإصلاح وإفادة شعوبها من تلك الموارد فلا يمكنها أن تعمل أمنيا بمعزل عنهم وبمعزل في نفس الوقت عن الدول المجاورة لأنها هي الآن مصدر القلق وفي معزل أيضا عن الدول الكبرى لأنها بدأت تساند حق الشعوب فهذه العزلة المركبة والمتناهية تجعل منها محط أنظار وتركيز الدول المجاورة والعالم برمته وهذا ما يحتم عليها العمل الجاد مستعينين بشعوبهم.