لا أعتقد أن هناك من لم يسمع بالأحداث التي عمت البلاد العربية، في تونس فمصر فاليمن فالأردن، ولا أعتقد أن هناك من لم يتأثر سلبا أو إيجابا بتلك الأحداث المتعاقبة والمتتالية تواليا غريبا عجيبا، وسأتحدث اليوم عن الأحداث التي غلفت الأجواء المصرية بالفوضى لأسباب مشروعة تارة ولأسباب غير مشروعة تارة أخرى، ولأني لست مؤيدة لهذه أو تلك، لا لأني لم أفهم الدواعي المحركة لها، بل لأني لا أفهم النهاية التي تتطلع لها، فمطالبات الشباب واضحة ولها مبرراتها المشروعة، أما خططها لتحقيق هذه المطالبات فمتذبذبة غير محددة المعالم، فكل طرف شارك فيها أو ادعى المشاركة فيها يدلو بدلوه، ولأن هناك من يستمتع بلطم الخدود وشق الجيوب عمد إلى إثارة النفوس وإشعال لهيب الغضب، ليحرق الأخضر واليابس، ساعيا بشغف القاتل لتوقف الحياة وانهيار الاقتصاد، وهروب الأموال وهجرة العقول، ولأني وفي خضم ذلك كله أخشى من تمزق عالمنا العربي، ومن خطوة دامية تتبعها خطوات، ومن توترات تستمر أعواما وأعواما، ولأني أخشى من مسمار جحا وما يترتب عليه من تدخلات خارجية سافرة في شؤوننا الخاصة سواء كانت سياسية أم عسكرية، وبما وجدت ممن حولي منقسما بين مؤيد ومعارض، ولأن شعوبنا الأبية لا تقبل تدخل الآخرين في شؤونها الخاصة والعامة، فنحن لسنا فاقدي الأهلية ليحكم الآخرون على مصالحنا الخاصة، كما أننا عندما ننقل ما قد يعم العالم من فوضى واضطرابات سواء في أمريكا أو أوروبا لا نمارس فنون الحرب البادرة، كان لا بد من الحديث وبصوت عال، بما قد لا يروق للبعض وبما قد يستنكره البعض الآخر.

ما سأكتبه هنا نابع من طبع تطبعت عليه، فأنا أحبذ عدم كتمان ما أعرف وما أؤمن به، خاصة لو كان المقام هو مقام إبداء الرأي، ومن هذا المنطلق سأعمد لنقل عبارات وردت في مذكرات "موسى شاريت" أول وزير خارجية للكيان الصهيوني، والذي تقلد رئاسة الوزراء بعد "دافيد بن جوريون"، وأهمية هذه المذكرات تكمن في أنها كتبت من أكتوبر 1953 إلى نوفمبر 1965، وغطت السنوات الأخيرة لحياته السياسية، وبالتالي كانت تتحدث عن الخطط الاستراتيجية للسياسة التي اعتمدها الكيان الصهيوني منذ الأيام الأولى لاحتلاله لفلسطين، وهذه اليوميات من الصعب التشكيك في صحتها إذ لم يكن الغرض من كتابتها النشر، فقد تعرض "ياكوف" ابن "موسى شاريت" وعائلته لضغوط هائلة لمنعهم من نشرها ولإرغامهم على تسليمها إلى حزب العمل الصهيوني، فهي تحمل وثائق هامة لرواد حزب العمل الصهيوني وسياساته والتي كان يفترض أن تبقى سرية، إلا أن ابن شاريت قرر أخيرا أن ينشر العمل بأكمله.

وهذه اليوميات تمت ترجمتها إلى اللغة العربية على يد "ليلى حافظ" وقدمها "ناعوم تشومسكي" ونشرتها "مكتبة الشروق الدولية" وهي تتكلم عن عدة قضايا، سأعرج هنا على فقرات هامة وردت فيها، والتي تتحدث بشكل أو بآخر عما يجري اليوم في عالمنا العربي من القلاقل، بشكل يكاد يكون دوريا، وأنا في ذلك أعلن إيماني بخطط أجنبية تدار وتنظم للحصول والاستحواذ على مصالح عربية قريبة أو بعيدة المدى، فعالمنا العربي مدار مطمع العالم، فهو كما يحمل المقدسات يحمل ثروات بشرية وطبيعية هائلة، عالمنا له تاريخ عظيم وأتمنى أن يكون له حاضر بديع ومستقبل مجيد.

لقد ذكرت اليوميات أنه في اجتماع عقد في فبراير من عام 1954 جمع رئيس الوزراء آنذاك "موسى شاريت" و"بن جوريون"، ووزير الدفاع بالكيان الصهيوني "بنحاس لافون" ورئيس الأركان "موشي ديان" بغرض وضع النقاط الرئيسية لمقترحات محكمة تهدف لزعزعة أمن واستقرار إحدى الدول المجاورة لفلسطين المحتلة، وهذه الخطط تظهر أن إثارة القلاقل والفتن بين الشعوب العربية هدف سام يسعى إليه هذا الكيان وأعوانه.

وهنا سأعمد إلى نقل بعض ما ورد في هذه اليوميات حول ما دار في هذا الاجتماع من أهمية وضرورة إيجاد تمويل ضخم ـ بمقاييس تلك الفترة ـ لتغيير خارطة الشرق الأوسط فقد قيل فيه (يجب إيجاد المال، إن لم يكن في الخزانة، ففي الوكالة الدولية! هذا المشروع يستحق أن نلقي بمئة ألف، نصف مليون، مليون دولار، وعندما يحدث ذلك سوف يحدث تغييرا جوهريا في الشرق الأوسط، وعصرا جديدا). كما تذكر اليوميات أن "بن جوريون" كتب في اليوم التالي لـ"شاريت" ليقول له: (إنني أفترض دائماً أنه إن كان هناك أحيانا بعض الأسباب للتدخل من الخارج في الشؤون الداخلية لدول ما، من أجل مساندة حركة سياسية داخلية لهدف ما، فإنه يتم في حال أظهرت تلك الحركة بعض النشاط المستقل الذي قد يكون هناك فرصة لدعمه، وربما إنجاحه من خلال التشجيع والمساعدة من الخارج، إذ ليس هناك أي معنى في محاولة تشكيل حركة من الخارج، حركة لا تستطيع أن تتشكل من الداخل.. فمن المستحيل ضخ حياة في جسد ميت) إذاً "بن جوريون" أراد استكمال ما عرض في اليوم السابق فبين في رسالته تلك أن دعم أي حركة داخلية تتطلع لهدف ما، أجدى للكيان الصهيوني وأهدافه الداعية لزعزعة الأمن والاستقرار في الدول المحيطة بفلسطين المحتلة، من دعمه للحركات الخارجية، كما أضاف في الرسالة نفسها قوله: (أنا لا أستبعد إمكانية تنفيذ هذا الهدف غداة تعرض منطقة الشرق الأوسط إلى موجة من الصدمات.. تدمر القوى الحالية..)

الخطوة التي طرحت من قبل "بن جورين" هي مراقبة الوضع الداخلي لدول الشرق الأوسط، فالهدف المترقب لهذا الكيان سيكون قابلا للتحقيق غداة تعرض منطقة الشرق الأوسط لموجة من الصدمات الداخلية بطبيعة الحال، تدمر القوى الوطنية، كما ذكر في خطابه ذاك: (بعد قول كل ما سبق "يجب أن أضيف" سأساعد إيجابيا ًأي مظهر من مظاهر التوتر..، حتى ولو لم تكن هناك فرص حقيقة لتحقيق الأهداف، سأنظر إيجابياً إلى مجرد وجود مثل هذا التوتر وعدم الاستقرار الذي سيتفشى بسببها، والمشاكل التي ستتسبب فيها للجامعة العربية، ستحول الانتباه من التعقيدات الإسرائيلية ـ العربية، وتحقق إضرام حريق.. ولكن ما عساي أن أفعل إن كان مثل هذا التوتر غير موجود؟.. فضلا عن أنه إن لم يتم الاحتفاظ بتلك الخطة سرا وعرف عنها الآخرون، فإن خطراً ـ لا يمكن الإقلال من شأنه في ظروف الشرق الأوسط ـ سوف يسبب لنا خسارة.. لن تعوض حتى من خلال نجاح محتمل للعملية نفسها..).

إذاً التوتر وإثارة الفوضى وإضرام الحرائق في عالمنا العربي وفي مقدراتنا الوطنية هدف أساسي يسعى إليه الكيان الصهيوني منذ أيامه الأولى، ولا أعتقد أن هذا الهدف أخمد أو اختفى بل فعل ونشط على أرض الواقع، من خلال أدوات الإعلام العربي والغربي المسيس، وبشكل لا يخدم إلا أهداف الكيان الصهيوني وزبانيته وهم مع الأسف كثر، وآخر ما سأذكر من هذا الخطاب ما ذكره "بن جوريون" عن صلابة وقوة مصر 1954 وصعوبة تحقيق إثارة الفتنة والفوضى على أرضها، فقد قال: (ولكن مصر هي أكثر الدول العربية إحكاما وصلابة، والأغلبية هناك تضم كتلة صلبة واحدة، من عنصر ودين، ولغة واحدة) لا أستطيع هنا أن أعلق فما نراه على أرض مصر أصابنا في مقتل.

ولكني أذكر من أن من أراد أن يسود، عليه أولا أن يفرق الجمع وينشر الفوضى ويسفك الدماء، ومع الأسف هذا ما نراه هذه الأيام في الكثير من بلادنا العربية، والشباب المصري ممن خرجوا في الأصل طالبين الإصلاح وللإصلاح هتفوا، حاول الإعلام المبرمج والمسيس تصوير أن كافة من حولهم خونة، فما عرض عليهم لا يكفي، ولن يكفي وتلك لا تشبع الغليل، والخوف كل الخوف من أن يصبحوا بين ليلة وضحاها أعداء أنفسهم يقتلون بعضهم بعضا، ويكيلون العداء لأنفسهم ووطنهم، بعد أن كانوا يدا واحدة وصفا واحدا ضد الفوضى والإرهاب حماة لبلادهم ولأطفالهم ونسائهم ولمقدراتهم، فما رأيناه من نشاط لجانهم الشعبية في هذا الوقت العصيب يدل دلالة واضحة على صمودهم واتحادهم، وأتمنى أن يفوتوا الفرصة على أعدائهم ويتمكنوا من إيقاف الخسائر الكثيرة التي طالت من مقدراتهم الوطنية والبشرية والمادية، وآمل من حكماء مصر إيصال الصورة لشبابهم، إذ نخشى أن تعيش مصر الوضع المأساوي للصومال أو العراق، حفظنا اللهم سبحانه بعظيم فضله وحفظ مصر العزيزة وأهلها وكافة بلادنا وسددهم لخير الأمة إنه ولي ذلك والقادر عليه.