عليك أيها القارئ الدؤوب أن تكون صيادا للكتب ولو بلغة الماندرين واليابان والطليان والسويد والفرنسيس والجرمان، وعليك بمطاردة كنوز المعرفة بدون رحمة وتخاذل بحاسة شم تفوق سمك السلمون (قوة الشم عندنا واحد ـ والكلاب 100 ـ والذئاب 200 ـ سمك السلمون 30000 مرة.)، ومثال ذلك ما تعاونا عليه أنا وأخي الفيلسوف السعودي البليهي فقد استطعنا أن نظفر بكتاب الطب التجريبي لكلود برنار بعد بحث ربع قرن، وكان ذلك بعد أن وقعنا على نسخة منه في مكتبة الإسكندرية، ساعدنا في الوصول إليه أخ تشادي محب للمعرفة. فقام بتصويره وأخذنا منه فورا أكثر من نسخة، ولقد كلفت زميلي الدكتور أيمن وهو مصري بالبحث لي عن كتاب قديم من أيام صلاح الدين الأيوبي بعنوان (الفاشوش في أحكام قراقوش) وقراقوش اشتهر بأحكامه الغريبة العجيبة فليس مستبعدا عليه أن يعاقب القطط ويجلد أمواج البحر كما فعل ملك فارس بجلد أمواج بحر الادرياتي بعد هزيمته البحرية في سلامس، وهذا التبادل الثقافي ميسر الآن والبليهي صور من مكتبتي كتاب الخواطر لباسكال وأنا بدوري صورت منه كتاب الشيفرة الكونية والإنسان يبحث عن المعنى لفكتور فرانكل ومغامرات الفكر لوايتهيد البريطاني. وهناك من الكتب ما لا يمكن العثور عليه في أي مكان. فوجب أخذ صورة عنه فور وقوع الكتاب في اليد كما في كتاب وحدة المعرفة لطبيب العظام محمد حسين كامل المصري الذي كتبه في أربعينات القرن الفائت من ألذ الكتب الفلسفية التي قرأت، أو فلسفة الكذب التي كتبها العلام في عشرينات القرن الفائت.

المكتبة في المنزل تروي حكاية عقل في البيت موجود، وقد يتعجب القارئ لو قلت له إنني نشأت في بيت ليس فيه كتاب واحد. فالقراءة تسلطت علي ولا أعرف كيف. منذ نصف قرن وهي في زيادة واستفحال مثل مرض عضال وهو بركة وشفاء. ووالدي كان بالكاد يفك الخط ما يسجل به حساباته، ويكتب رسائله بخط مائل كبير، وربما رأيته مرة أو مرتين في دكانه وهو يقرأ جريدة ولا أعرف كم استوعب منها وماذا قرأ. وكانت غريبة علي أن أجده يتصحف نون والقلم وما يسطرون. وكانت أفضل أحلامه رحمه الله زيادة ثروته قليلا .. فلم يحظ بالعلم ولا الثروة والواحدة تجر الثانية.

ولا أعرف أنا شخصيا من أين تسلط علي شيطان أو بالأصح ملاك القراءة، وبدأت منذ نعومة أظفاري فكنت أشتري بالمال القليل (الخرجية) قصص شكسبير من دكان أحمد الكيزاوي في القامشلي.

وما زالت هذه متعتي في الحياة وكل كتاب أكتبه أعتبر نفسي أنني رزقت بولد غير بيولوجي فعندي الآن ثلاثون غلاما زكيا ورحمي حامل بأربعين. وكانت زوجتي ليلى سعيد رحمها الله من هذا النوع فلم تطلب مني يوما فستانا ودكانا، ولا مالا وعقارا ومتاعا، بل متعتها كتاب ومقالة، ولقاء مع شخصية علمية، وخبر من خزائن العلم وبيوت المعرفة، عليها رحمة الله حتى أجتمع بها في جنات الخلد برحمة الرحمان كما رأيتها في المنام قبل يومين فالمنام روضة اجتماعنا وذهاب أحزاننا، حتى نقول يوما الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب.ويوم السعادة عندي كتاب جديد لذيذ أقرؤه أو تسطير مقالة إبداعية، ما دعا علماء النفس تسميتها النشوة بدون مورفين.

وكان نصف الأمي نصف المثقف في عائلتنا عما لي اسمه زكي وكان ذكيا غنيا فدعاني مرة للقراءة من مكتبته فكانت بضع كتب من مجلة العربي الكويتي فانكببت على التهامها.

وأذكر السخرية اللاذعة التي كانت تنالني ممن حولي حين بدأت في كتابة القصص الأولى، فكففت واستغنيت وتوقفت عن الكتابة.

وأذكر جيدا من طفولتي وأنا أدفع ربع ليرة لزميلي في المدرسة أن يتنازل عن قصته التي توزعها علينا مكتبة المدرسة كل أسبوع فكنت أقرأ قصتين في الأسبوع واحدة مدفوعة الثمن من جيبي.

وبدأت في تعلم النجارة فعملت خزانة كتب ثم بدأت بجمع الكتب ومازلت في اصطياد غاليها، وأذكر جيدا من حلب مكتبة عجان الحديد صاحب المكتبة العجيبة فليس ثمة كتاب في الشرق الأوسط إلا وعند الحلبي عجان الحديد نسخة منه أعني كتب التراث وليس المعاصرة وليس في مقدوره.

وهناك العديد من الكتب التي تقع تحت يدي لا تجد لها نسخة أخرى في السوق بعد فترة. نموذج ذلك كتاب تحليل الخلق لعالم النفس هدفيلد فقد وقع تحت يدي قبل أكثر من ثلاثين سنة فأخذ صديقي البليهي نسخة مصورة عنه وهو من أجود ما كتب وترجم من علم النفس.