أخيرا اقتنع الرئيس اليمني بأن لا يؤجل إصلاح اليوم إلى الغد، لقد قال بوضوح (لن أعاند ـ لاحظوا لن أعاند ـ بل سأقول لبيك للمصلحة الوطنية العليا وهذا ليس عيبا، وسنجري إصلاحات شاملة)، والآن لا يصح أن يقال للرئيس، هل كنت تعاند كل هذا الوقت الماضي، ولا لماذا لم تقل للمصلحة العليا: لبيك، منذ زمن؟ بل الصحيح أن يقال له هذا عين العقل، نعم عين العقل، فالعيب كل العيب ألاَ يستجيب الرئيس للمصلحة الوطنية العليا في الزمن المناسب، والفضيحة كل الفضيحة أن لا يستجيب لها إلا وقد أصبحت مفروضة عليه فرضا، مثلما حدث للرئيس التونسي الذي لم يجد وقتا لشرح استجابته، فقد وصل إلى جدة هاربا قبل أن يسمع الثائرون إقراره بفهمه المتأخر جدا، ومثلما يحدث الآن للرئيس المصري الذي تنازل عما أصر عليه ثلاثين سنة في ثلاثة أيام، دون جدوى، بفعل العناد الذي قرر الرئيس صالح التخلص منه.
حسنا، الرئيس اليمني أعلن حزمة إصلاحاته يوم الأربعاء الماضي محذرا من الفوضى التي قد تدمر الوطن لا سمح الله، وهو محق فالفوضى قاتلة مدمرة، ولا يوجد عاقل على الأرض يدعو إليها، والإصلاح مطلوب بإلحاح شديد ولا يوجد عاقل في الأرض يرفضه، بل إن عين العقل هي أن يبادر الرئيس نفسه للدعوة لهذا الإصلاح وحمل الآخرين على تطبيقه، لا أن ينتظر حتى يطلبه الناس ويلحون فيه، وهو يرفض ويعاند، حتى لا يجدون سبيلا إلى إفهامه إلا بالثورة عليه، هذه هي الحقيقة الجوهرية، دعك من المستشارين الذين تتحكم فيهم الرغبة والرهبة، ودعك من المحللين السياسيين الذين يختلقون أبعادا سحرية تكذبها وقائع حياة الناس وتجاربهم، والحياة الرغيدة التي أصبحوا يرونها غربا وشرقا عند بشر مثلهم، ودعك ممن تورطوا في الغباء دهرا، واستيقظوا يبحثون عن شماعات لتعليق فشلهم في الفهم والسلوك والمسؤولية والحكم، دعك من كل هؤلاء واستفت قلبك.
الرئيس اليمني فيما بدا ـ زمنيا ـ ظل مترددا في فهم أو تصديق الرسالة التي أطلقتها ثورة تونس في الفضاء العربي، ويبدو أيضا أنه صدق ما قاله الرئيس السوري أن لكل بلد عربي خصوصيته، وأن البقية (مش تونس ولا مصر!)، وأن الشعارات الأيديولوجية هي الأهم! لكن الرئيس اليمني ـ فيما يبدو أيضا ـ (أقول يبدو لأنني أحاول قراءة ما حدث)، لهذا أقول لقد تأمل واستفتى قلبه وحكَم عقله، وصارح نفسه، وتصور ما يمكن أن يفعله الشعب، وتخيل ما يمكن أن يجر ذلك من فوضى وتدمير، واكتشف أن كل ذلك سيكون بسبب العناد الذي لا مبرر له، وبسبب تجاهل المصالح العليا الحقيقية للوطن، فانطلق يعلن ما أعلن من تنازلات وإصلاحات أمام مجلسي النواب والشورى.
استبق الرئيس اليمني مظاهرات الغضب الموعودة يوم الخميس الماضي فنجح، جاءت المظاهرات المؤيدة والمعارضة سلمية هادئة، والرئيس لاشك يستطيع تقييم الموقف من واقع معرفته بطبيعة المؤيدين، ومطالب المعارضين، وأهم من ذلك معرفته الأكيدة بأزمة الثقة التي كرست نفسها في التراب العربي حتى أصبح التنصل من الوعود والانقلاب عليها هو أخصب تربة فجرت ثورتا تونس ومصر، وستفجر غيرهما ما لم يتحل المعنيون بالشجاعة والصدق، ويهجرون العناد، ويدركون أن شعوبهم امتداد عربي طبيعي لشعبي تونس ومصر.
لم أعلق على الإصلاحات التي أعلنها الرئيس اليمني لأنها تهم شعبه وهم من يستطيع مناقشتها، لكني أتحدث عن المبدأ فقط، ولهذا أسأل كل من قال ـ على النت أو الفضائيات ـ بأن الرئيس خائف، هل الخوف عيب؟ هل أخذ العبرة ممن غالطوا أنفسهم وألقوا بأنفسهم إلى التهلكة جُبن؟ هل تلافي الفوضى واتقاء غضب المواطنين وحنقهم مثلبة؟ هل التمادي في التسلط والفرجة على الفساد يستشري والظلم يتفشى خدمة للمصالح العليا؟ لقد قال تعالى "واعتبروا يا أولي الألباب"، وقال "يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا". ذاك يوم القيامة، لكنه جل وعلا يضرب لهوله أمثلة عملية في الدنيا، مثلما ضرب مثلا لنوره من المشكاة والنبراس. عذاب الدنيا مروع ومرعب أيضا، واسأل بن علي ومبارك، والعاقبة ـ في الدارين ـ للمتقين.