النص المقروء على صفحات الجدران بكل تلويناته وتنويعاته، وما يحمله من شعرية ومقطعات تنصهر في داخلها وتنبث في مفاصلها كتابات ظرفية، فرضتها سخونة وجدانية، وأحلام غامضة، وتفوهات عميقة، تهجس بما في تلك النفوس من توتر مؤرق، وإكراهات وشحن محير، أن تلك الكتابات جميلة وجارحة في آن واحد، جميلة بما فيها من حرارة ورقة وعذوبة في ثوب شعري واهن وفي لغة شعبية متسيدة: حمام يا للي تزعج الصوت بلحون. نوحك طرب منتاب مثلي معنّى. لكنها جارحة حين تعجز عن التعبير بالفصحى، وتزهد فيها وتوظف جدران الحي وواجهات المساكن فتوشحها بذلك التلوث البصري، وتسربلها بالبكائيات والأوجاع والانكسار الكئيب والمهزوم، والمسكون بالعاطفة الدامعة: يا صاحبي عني تنحيت وأبطيت وأنا من الفرقى تهل عبراتي. كما تلمح اقتباسات وعبارات قاسية وقبيحة تتجه إلى أشخاص أو أندية رياضية، عبر كلمات مراهقة، وجمل ساقطة وصادمة للذوق العام، وقيم المجتمع المحافظ.
إنني لا أعرف سر تلك التهويمات، والتداعيات والاقتباسات المدونة على جدران مدننا، بعد أن تحولت إلى ظاهرة عاصفة، ولم تخضع لقراء ة واسعة من خلال علماء الاجتماع والنفس، ومن خلال المنبر والأسرة والمدرسة والجامعة. إننا نحتاج إلى مراجعات مكثفة لإيقاف هذه الاندفاعات المتخاصمة مع جماليات الحياة، والاستعاضة عن تلك الدفاتر الجدارية التي أصبحت لافتات غير مقبولة في شوارعنا وساحاتنا العامة وجعلها ضمن المحظورات التي يعاقب عليها القانون، والسؤال المدبب كرمح هل انغلقت أمام هؤلاء الشباب وسائط التعبير المعرفي سواء في البيت والمجتمع ومحاضن التعليم لكي يستبدلوها بالجدران وحاويات النفايات كخطاب صارخ، وملفوظ وجداني وممارسة غير إيجابية: البارحة من خافق الصدر ونيت. وفي لافتة أخرى: تكفين يا طفل المها لا تصدين. وعلى جدار مدرسة متهالك تلمح هذه التنهيدة الموجوعة: يقولون راعي الحب الأول غلاه يزيد أجل كيف لا صرت أول الحب والتالي. ويقول آخر: (عمرك سمعت بطير ويحب سجانة). إن النصوص المكتوبة لها صلة بالحياة والواقع اليومي وتتجاوز السطح ولكن المزعج فيها والمستفز أنها تهمل الفصحى وتستثمر حيوية العامية مما يؤكد طغيان الشعبي وجبروته: يا غصن موز ما بعرضه تعاويج ومنين ما هب الهوى له يطيع. إنني لا أبحث عن تبرير لذلك السلوك المشين، ولكني أبحث عن أسباب شيوع هذه الطفرة ومهادنة المجتمع لها كأمر واقع نعجز عن مواجهته. لقد اتسعت هذه الدائرة في ظل وعي متسامح، لا يضع روادع وزواجر لما يجافي الذوق ويشوه جماليات مدننا. إننا ندرك أن هذا الأسلوب من التعبير هو من أقدم أساليب التعبير في الوجود حيث وجد على الصخور والكهوف كمدونات مكتوبة أو مرسومة أو محفورة.