في الذكرى السنوية الأولى لكارثة سيول جدة، التي أصبحت من الأحداث التي ندون بها تاريخ جدة، وكأنها حرب البسوس أو عام الفيل، عادت لزيارتنا الأمطار والسيول وكانت ضيفا ثقيلا لا نرحب به، وليس بوسعنا تحمله. أعاد إلى ذاكرتنا قتلاه، والدمار الذي خلفه من ورائه. فاجأنا ثانية ولم يجد حالنا تبدل. ولأن زيارته جاءت متزامنة مع أيام الاختبارات، عمت الفوضى ثانية، وتخبطت الناس مرة أخرى.
في ذكرانا الأولى لكارثة السيول، لم نجد من تعلم منها دروسا سوى شباب جدة الذين عرفوا قيمة العمل التطوعي وانخرطوا فيه ثانية، وأظهروا الوجه المضيء لمدينتنا المنكوبة. تعلم هؤلاء بينما سوّف الآخرون. وتعلم من فقد سيارته في الحادثة الأولى، فأبعدها إلى أماكن أكثر أمنا. وعرفنا مواطن الضعف في البنية التحتية، فسلكنا طرقا أخرى، ظننا أنها بمنأى عن السيول، لكن وجدناها تغرق في بحر من المياه، فأضفناها إلى قائمة المحظور.
واقع الأمر أننا لا نمتلك البنية التحتية اللائقة بضيافة أمطار من هذا الوزن الثقيل. وهي قضية تأخرنا كثيرا في التفكير فيها، وحتى بعد التفكير قررنا أنها لا تستحق العناء، كما صرح، مرة، واحد من الأمناء السابقين. وحتى بعد أن لُدغنا مرة، لم نزل مكشوفين من ناحية الجحر نفسه، ومعرضين للدغة أخرى ومن يدري كم بعدها سيأتي.
إحصائيا ربما لم تتكرر، كثيرا، سيول بهذا الحجم في سنين متتالية بمنطقتنا، ولهذا منينا أنفسنا بمتسع من الوقت، وجففنا بحيرة الصرف الصحي، ثم غفونا إلى أن أيقظنا هدير السيول.
نسينا أنه إلى جانب الإحصاء، هناك علوم تعنى بتقدير المخاطر وحساب الاحتمالات وقسوة الأثر. ومن المزيج توضع السيناريوهات، وتعد الاستراتيجيات لإدارة المخاطر ودرء الخطر ما أمكن. ومهما تدنت نسبة احتمال وقوع الحدث، فإن حجم الفواجع يحتم علينا أخذ الحيطة. صحيح أنه لا يمكن بناء السدود والأنفاق، وشبكة لتصريف السيول في عام أو عامين، لكنه كان من الممكن تفادي الكثير من المعاناة التي شهدنا بقليل من التدابير.
وقد تتغير قواعد الإحصاء في ظل ما يردده المسؤولون في الرئاسة العامة للأرصاد وحماية البيئة. ففي مقابلة على القناة الإخبارية، يذكر الدكتور سعد المحلفي، وكيل الأرصاد، أن منطقة وسط البحر الأحمر وبالتحديد ما يقابل محافظة جدة تشهد تطرفا مناخيا ملموسا، وأن الأمطار الغزيرة داخل إطار المحتمل أو المرجح في الأعوام القادمة. هل يعني هذا أننا سنعاني في كل عام عندما تهطل علينا الأمطار؟ أم أن الأمانة والمؤسسات المعنية الأخرى تنوي أخذ الأمور بجدية أكبر مما رأيناه بعد عام من كارثة السيول الأولى؟
لقد عرفت الرئاسة العامة للأرصاد وحماية البيئة بقدوم العاصفة أياما قبل وصولها، والدفاع المدني يعلن أنه لم يكن على علم إلا أربع ساعات قبل وقوع الكارثة. هذا دليل على ضعف التواصل أو غيابه بين مؤسستين حيويتين تتكامل في أداء مهماتها! وفي يوم الأربعاء يحذر الدفاع المدني من هطول أمطار شديدة وينصح بالبقاء في أماكننا، بينما، وفي نفس الوقت، يعلن المتحدث باسم الرئاسة العامة للأرصاد عن استقرار الطقس واستبعاد احتمال سقوط الأمطار! أين التنسيق؟
ربما ظن الدفاع المدني أنه بتحذيراته التي بالغ فيها سيبقي الناس في بيوتهم ويثني عزمهم عن الخروج. لم يأخذ في حساباته اهتزاز صورته وخلخلة مصداقيته أمام العامة، ولم ينتبه لأثر معلوماته الخاطئة على استجابة الناس لندائه، وتفاعلهم مع تحذيراته في المستقبل.
وقرار إدارة التعليم جاء متأخرا، وبعد أن خرجت حشود الطلاب إلى مدارسها وأخذت مقاعدها في صالات الامتحانات. ومن كان له أبناء في مدارس مختلفة اضطر إلى الاختيار، فلا سبيل إلى الوصول لمدرستين في وقت متقارب. وقضى التلاميذ من الذكور والإناث ساعات طويلة يصارعون الفوضى التي ظل يعمل الماء على تصعيدها. لا يبدو أن لإدارة التعليم خطة طوارئ واضحة، فقد تردد قرارها بين مواصلة الامتحانات وإيقافها، وتغيرأكثر من مرة. لو كان بأيديهم خطة مدروسة، لقُرأ ما في باطنها وحسب.
لماذا لا نحصرالأماكن المتضررة والتي تضررت في السابق والمحتمل تضررها في المستقبل ونضع لها خططا للطوارئ؟ لا يمكن الاعتماد على إجلاء السكان وإخلاء المساكن مع كل رشة مطر. جميعنا يعرف أن الحالة معقدة، وأن الحلول أكثر تعقيدا، لكن في الإدارة والهندسة ما يمكن توظيفه، وخبرات الآخرين متاحة. علينا أن نقطف أولا الثمار القريبة، ونسعى للبعيد منها بعد ذلك.
أظن أنه بوسعنا أن نقترح إعادة تشكيل شبكة مجاري السيول التي أنفقنا عليها مئات الملايين، وتوظيفها بمدها إلى البحر أولا، ثم ربطها مع المناطق الأكثر تضررا بشبكة من القنوات الإضافية، وإن تعذر، فمن الممكن بناء نظام تخزين أرضي لتجميع المياه في المناطق المتضررة، ثم ضخها إلى الشبكة المعدلة. هذا مقترح يمكن بسهولة دراسة جدواه وإمكانية الأخذ به من بين الحلول الأخرى.
وعلينا عاجلا تشكيل فريق على المستوى الوطني وآخر على المستوى المحلي تشارك فيه المؤسسات المعنية بكوادر مؤهلة، ويوظف مستشارين في ما يحتاجه من التخصصات، للتعاطي مع ما يطرأ من أحداث وما يصيبنا من كوارث. كفانا تشكيل اللجان التي لم تقدم شيئا ولم تؤخر. ألم يكن من الأولى أن يتسلم فريق واحد إدارة الأمورأثناء الأزمات، ويعمل على التنسيق بين الجهات المختلفة، المعنية بالتنفيذ، وتوحيد الجهود؟ لا ينفع أن يكون لكل مؤسسة خطة مستقلة للطوارئ، ما لم تجمعها استراتيجية موحدة، ويديرها أو ينسق في ما بين العاملين عليها جهاز واحد.