الأديب العربي الناجح هو الذي يحمل في جيبه نصاً عن فلسطين! لقد أصبح ذلك من الضروريات التي لا يُستغنى عنها، فالنص الطازج الذي تحبه الجماهير العربية وتصفق له وتتفق عليه هو الذي يتحدث عن مأساة فلسطين، ولا علاقة للنص بالتاريخ أو الجغرافيا، أو فوران الحدث، أو ما يحدثه الرفاق من خيبات متتالية.
المذيعون العرب أيضاً لا يمكن أن يخطئوا في نطق كلمة فلسطين، لقد تعلموها قبل أن يدخلوا المدرسة! وعرفوا أنها أيقونة نشرة الأخبار، بل إن المبتدئين منهم يتعلمون الإلقاء والوقوف أمام الكاميرا على جثة النص/ القضية. وكذلك الممثل العربي ساهم بدوره في البحث عن بطولة من خلال مسلسل أو فيلم يتحدث عن فلسطين كي يوصف بـ(الفنان المناضل). حتى تلاميذ المدارس في العالم العربي يعرفون فلسطين جيداً، بل ربما أكثر من معرفة بعض الكبار!! فهم يقرؤونها في كتبهم ويعلقون خريطتها على الحائط، ويصادفونها في إذاعة الصباح، وعلى أغلفة مجلات الأطفال.
إذن ففلسطين هي نص عربي طازج على كل المستويات والأعمار، لا غنى عنه لمن يريد الشهرة، والوظيفة، والمكان والمكانة، لكن العقلاء يعتقدون في أحيان كثيرة أن هذه القضية المُعمرة تشارك الديناصور سيرته من الفناء إلى التحجر، وأنها أصبحت قضية خلاف كبيرة بين الفلسطينيين أنفسهم، وبالتالي بين بقية العرب. فاليوم انقسم الشعراء بين فتح وحماس، هنية وعباس، عريقات ومشعل، واحتار المذيعون كيف يكسبون المشاهدين الذين انقسموا بدورهم أيضاً إلى فرق متعددة بسبب قضية واحدة! بينما اشتغل الممثلون على المذهبية بعد دخول الفرس على خط النضال!
هذا الانقسام حصل للديناصور أيضاً، إذ يعتقد البعض أنه كائن خرافي لا وجود له، بينما يصر البعض الآخر أنه عاش في فترة من الفترات ثم زال بجائحة، ويدللون على ذلك ببعض الأحفورات المتبقية في غير مكان من العالم، وهنا ظهر رأي ثالث يقول إن كل قضية معقدة يجب أن نتعامل معها كما نتعامل مع الديناصور تماماً، أي أن نأخذ ما نجد من أحفورات الديناصور/ القضية إلى المختبر وندرسها هناك دون أن تشغل بالنا وتعطلنا عن الحياة.
المشكلة أن التاريخ لا ينسى، بل يصر على استحضار الديناصور والقضية جنباً إلى جنب كلما أراد أن يتحدث عن الأساطير والأحفوريات، والخلاصة: أن فلسطين التي نحب لم تعد موجودة ـ أو هكذا نشاهد ونسمع ـ كما كانت أيام آبائنا وأجدادنا والسبب هم أهل القضية أنفسهم، وبالتالي فلا أعتقد أن فلسطينياً عاقلاً يمكن أن يلوم العرب على ضياع متر واحد من فلسطين، ولا أن يدعي كالسابق أن العرب خذلوا القضية كالعادة، وطالما أنه لا يمكننا أن نراهن على كثير من الفلسطينيين اليوم في الثبات على رأي واحد تجاه قضيتهم، فلماذا نكون ملكيين أكثر من الملك؟ ولماذا نحفظ أرقام التاريخ الذي يطمسه أهله يومياً بمواقف وتصريحات لا تنتمي لشيء؟.
بعد رحيل الرئيس ياسر عرفات والشيخ أحمد ياسين فقدت القضية الكثير من ملامحها ووهجها الذي كان، صحيح أن "لكل عصر دولة ورجال"، لكننا لا نرى اليوم لا دولة ولا رجالا! بل مجموعات لا متناهية من تجار الشنطة الفاشلين الذين يعملون ضد بعضهم البعض.
الوثائق التي نشرتها "الجزيرة" تقول ـ إن صحت بالطبع ـ "إن ثمة ملهاة تجري باسم وطن يراد له حين يوجد أن يكون (علبة تونة) بالفعل، وإن أطرافاً فلسطينية داخل وخارج السلطة لديها الاستعداد لتقديم كل شيء مقابل لا شيء، وإن كل طرف فلسطيني يحاول العمل ضد الطرف المقابل له أكثر من العمل ضد إسرائيل". كل هذا قبل قيام الدولة، فكيف سيفعلون بعد قيامها؟ هل ستقوم حرب أهلية بينهم؟ إن صحت وثائق الجزيرة فعدم قيام دولة فلسطينية أفضل بكثير من قيامها، طالما أن من يمثلها يريدها له وحده وعلى مقاسه هو، بل إن بقاء فلسطين نصاً عربياً نهيم به شعراً ونثراً أفضل بكثير من رؤية دمائها تسيل بأيدي أهلها، لكن هل سنهيم بفلسطين إلى الأبد؟ أشك في ذلك.