في العام الماضي كان ما تلا الكارثة من مواقف مؤثرا جدا في وجدان الناس ومشاعرهم، وكان الحديث عن مواجهة الواقع من أبرز العوامل التي ساعدت على تخطي الأزمة على المستوى الوجداني والوطني للناس، لكن ما الذي حدث بعد ذلك؟ في الواقع لقد حدث كل شيء إنما على مستوى الأوراق والاجتماعات واللجان، بينما الواقع ما زال يفتقر لجرافة تحفر الأرض ولرافعة تقوم بالبناء.
الآن حالة من الضياع تتلبس كل الذين يبحثون عن إجابة لسؤال: من المتسبب في ذلك؟ وفي الواقع فهذا السؤال سطحي للغاية، والقضية ليست في أفراد بقدر ما هي في تنظيمات وأساليب عمل تجاوزها الزمن، فمن يصدق أن بعض المشمولين بالتعويضات من العام الماضي لم يتسلموا مستحقاتهم إلى الآن، تلك المستحقات لم يأكلها أحد، ولكن أكلتها المعاملات والبيروقراطيات والإجراءات الرتيبة التي لا يمكن لها أن تدير مشروعا واحدا الآن، فكيف بها وهي تدير عملية تنمية بأكملها.
أكاد أجزم أنه لا يوجد أمير منطقة لا يعاني من شكل الإجراءات التي يواجهها وهو يسعى للحصول على اعتمادات مالية لمشروعات مهمة في منطقته، والحال كذلك بالطبع لدى مختلف الوزراء، مما يعني أن الوطن بأكمله ضحية حقيقية في يد أنظمة وإجراءات آمنت بالثبات والجمود وتريد أن تدير التنمية بأدواتها البطيئة في زمن متسارع الخطى.
ببساطة، كم تحتاج أبسط مناقصة يحتاجها شارع في جدة لردم حفرة أو لتنفيذ مشروع صرف صحي؟ اقرؤوا فقط أنظمة المنافسات والمشتريات الحكومية، واعلموا أن أمير منطقة قد لا يستطيع البت في مبلغ مليون ريال دون أن يعود إلى أضابير وأوراق ومعاملات المالية.
في هذا الوقت المتسارع من الزمن ما زالت أنظمتنا المالية تتحدث عن ممثل مالي وأذونات صرف ومدة ثلاثين يوما للعطاء، وثلاثين يوما لفتح المظاريف وعشرات اللجان التي تحتاج أن تطوف بها المعاملة وقد لا تصل. واقرؤوا في نظام المنافسات في وزارة المالية ما نصه: (على الجهات الحكومية قبل طرح أعمالها في المنافسات العامة أو تأمين مشترياتها أن تضع شروطا ومواصفات فنية تفصيلية دقيقة للأعمال المطلوبة. .. كما يجب عليها عدم المبالغة في المواصفات وألا تتجاوز حاجة ومتطلبات المشروع والاعتمادات المالية المخصصة له).
هذا النص يكشف أن العامل المؤثر في قيام أي مشروع ليس مدى الحاجة إليه، وإنما ما رصد له، أي أن الاعتماد المالي مقدم على الاحتياج التنموي، بمعنى أنه لو احتاجت محافظة جدة لعشرة سدود مثلا، بينما لم يعتمد لها سوى ثلاثة سدود، فعليها أن تنتظر عاما كاملا من أجل الميزانية الجديدة، وهو ما يبدو أنه قائم بالفعل، ولعلنا نتذكر جميعا حجم الدهشة التي تغشت الجميع حينما كشف أمين مدينة الرياض بعد الأمطار التي هطلت على العاصمة العام الماضي حجم التأخير الذي تتعرض له المشروعات بسبب عدم صرف اعتماداتها المالية.
إذا كان هذا هو الحال في الوزارة التي تدير عملية التنمية على مستوى الصرف والاعتمادات المالية، فكيف بالوزارات الأخرى التي تباشر عملية التنفيذ، والتي هي أيضا مرتهنة لإجراءات لا تقل بيروقراطية وجمودا عن إجراءات المالية.
هذه الأنظمة، وما تعيشه من جمود وترهل وبطء، تمثل الداعم الأبرز لمختلف عمليات الفساد والاحتيال التي تتعرض لها مختلف العقود، فمن يصدق مثلا أن وزارة المالية تقوم بعملية محاولة تخفيض الأسعار حين يقدم إليها مشروع من وزارة ما، وكثير من المشروعات تم إنجازها بكفاءة أقل مما يجب، وتعرضت بذلك أرواح الناس للخطر، طبعا.. أليست هي الوزارة التي توصي الجهات الحكومية بألا تبالغ في المواصفات الفنية لمشروعاتها. لأن الجوانب المالية هي التي تمثل المحور في عملية إقامة المشروعات وليست جودة المشروع ولا كفاءته. وأسالوا كثيرا من المقاولين الذين تأخروا في إنجاز مشروعاتهم، وستجدون أن التأخر الذي يتعرضون له في صرف مستحقاتهم يمثل مبررا ربما يمكن قبوله.
من يتصور إذن بأن كارثة جدة التي وقعت في العام الماضي يمكن أن تتم معالجتها عبر هذه الأساليب والأنظمة؟
إذن، فالمشكلة فيما حدث في جدة الأربعاء الماضي ليست في الحل، وإنما في أدوات وطرق ذلك الحل، فالوضع الذي ندير به مشروعاتنا لا يلبي ما نحن بحاجة إليه في الرخاء من سرعة وسباق للزمن، فكيف إذا كنا في سرعة تهدف لإنقاذ الأرواح التي تتعرض للخطر كل عام، فما نبحث عنه الآن في جدة لم يعد تنمية ولا رفاه، وإنما نبحث عن مشروعات تحمينا من الخطر.
حتى ما يمكن القول إنه تحديث يطال تلك الأنظمة باستمرار، فهو لا يعدو كونه مجرد تعديلات لا تمس البنية الأساسية لتلك الأنظمة، كما أن منح أمراء المناطق المزيد من الصلاحيات للمشروعات التي في مناطقهم، سوف يسهم على الأقل في جعل الناس قادرين على تحديد المسؤوليات وقراءة مواقع الإخفاق، وحتى السؤال عن الفساد وعن الرقابة بات أمرا يدعو للإحباط، فالمفترض أن الأنظمة التي تتمتع بحيوية واسعة، قادرة على حماية ذاتها من الفساد بينما الأنظمة التي لا بد من التحايل عليها هي التي تسهم في فتح الثغرات في داخلها، وبالتالي تطبيع القفز عليها لأنها غير صالحة أصلا.
إن المطلوبين الحقيقيين والجناة الفعليين في كل ما حدث في جدة، هي تلك الأنظمة الجامدة الرديئة التي أصبحت عبئا على حياة السعوديين وتطلعاتهم، والتي ليست بحاجة إلى تعديل، بل هي بحاجة إلى تغيير كامل. وما يحدث في الأنظمة المالية ليس سوى مثال على ورق يكبلنا ونؤمن بثباته بلا مبرر، ونسميه أنظمة وقوانين، بينما النظام الذي لا يحمي نفسه من الفساد، هو بحاجة إلى نظام بديل.