نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" يوم الأحد من هذا الأسبوع تحقيقاً صحفياً عن تداعيات ثورة تونس من مغرب العالم العربي إلى مشرقه. ووفقاً لهذا التحقيق، فإن التجاوب السريع مع أحداث تونس دليل على أن الجيل الحالي من الشباب العربي بدأ يتكلم بصوت واحد، عن هوية واحدة، ومصير مشترك، ربما للمرة الأولى منذ فترة الخمسينات من القرن الماضي، معبراً عن تطلعه الشديد إلى العيش الشريف والحرية والكرامة الوطنية.

وقد جمعت هذه الثورة الشبابية بين وسائل الاحتجاج القديمة والجديدة، فقد أصبحت قصيدة أبي القاسم الشابي (الرائية) النشيد الرسمي لهذه الثورة، كما يقول تقرير نيويورك تايمز. أما وسائلها فهي وسائط الإعلام الحديثة، من الفيس بوك إلى تويتر إلى رسائل بلاك بيري الآنية، التي لا تمر على الرقيب، ورسائل الجوال التي تنقل في الحال، بالصوت والصورة، مجريات الأحداث في أنحاء العالم العربي.

ومع أن الشابي عاش منذ نحو قرن (ولد في عام 1909م وتوفي في عام 1934)، إلا أن شعره يخاطب الشباب العربي الغاضب بلغة يفهمونها، فالشابي كتب جميع قصائده وهو شاب في عمر المحتجين اليوم، وتوفي وهو في الخامسة والعشرين من عمره. ومعلوم أن الشابي كان يشتكي في شعره من الاستعمار الغربي الذي كان يحتل معظم أجزاء العالم العربي حينئذٍ، ولذلك استطاع الحكام العرب الذين ورثوا حكمهم من الاستعمار الأجنبي أن يُقنعوا شعوبهم بأن مطالب الشابي قد تحققت بالتخلص من نير الحكم الأجنبي، وبذلك حُيّدت قصائد الشابي فترة من الزمن، ولكن الشباب اليوم لم يعودوا يتذكرون الاستعمار إلا قليلاً، وإن فعلوا فإنهم يدركون أيضاَ أن طعم القهر والاستعباد لا يختلف كثيراً سواء كان الظالم عربياً أو غربياً. ولذلك فإنهم يفهمون شعر الشابي على نحو آخر، ويعدّونه معبراً عن واقعهم الحالي.

وما زالت قصيدة الشابي الرائية تتجاوب أصداؤها في منطقتنا، فقد اطلعتُ هذا الأسبوع على معارضة (تشطير) لها كتبها الدكتور حجر البنعلي، الطبيب والشاعر المعروف، ووزير الصحة السابق في قطر. والتشطير طريقة تقليدية في الشعر العربي، فهو يستهوي بذلك الروح التقليدية لدى كبار السن، وقد نشر قصيدته على موقعه الشخصي على شبكة الإنترنت، مما جعلها في متناول الشباب الذي يعتمد على شبكة الإنترنت مصدراً رئيساً للمعلومات، كما نقلتها عدد من الصحف. وهذا جزء يسير منها:

(فويلٌ لَمن لم تَشُقْهُ الحياةْ)

وظلَّ بعيشٍ كعيشِ البقرْ

وويلُ الجبانِ وويلُ الذليلْ

(مِن صَفعَةِ العدَمِ المنتصرْ)

(كذلكَ قالت ليَ الكائناتْ)

لأُخبِرَ من غابَ أو من حَضَرْ

أسرَّتْ إلـيَّ بنـصرٍ قريبْ

(وحدثنـي روحُها المُـستَتِرْ)

(ودَمدَمَتِ الريحُ بينَ الفِجاجْ)

فوسـوَسَ طاغيةٌ واقشَعَرّْ

..إلى آخر القصيدة.

وللتوضيح، فما بين القوسين هو من قصيدة الشابي، والباقي من شعر الدكتور حجر.

ويلفت النظر وحدة مضمون الاحتجاجات، وليس أسلوبها فقط. فقد توحد المحتجون في أنحاء العالم العربي في مطالبهم الثلاثة (الشغل – الحرية – الكرامة)، ووجهوا غضبهم إلى ثالوث (البطالة - الفساد - كبت الحريات). أي أنهم يشتكون من الأمور ذاتها: البطالة والفقر والجوع من جهة؛ الفساد وسوء إدارة الاقتصاد من جهة أخرى؛ والتهميش والإهمال وسوء المعاملة من قبل الجهات الحكومية.

وهذه القضايا موجودة في جميع دول العالم بدرجات متفاوتة، وليس في العالم العربي وحده، ولكنها لا تؤدي عادة إلى ثورات شعبية على النحو الذي نراه الآن في الوطن العربي، فالبطالة في حد ذاتها موجودة بمعدلات عالية في معظم دول العالم هذه الأيام بسبب الأزمة المالية العالمية، وكذلك الفساد وسوء الإدارة. بل قد تتواجد جميع هذه الشكاوى أو المظالم في الوقت نفسه، ولكن ما دام الفرد يشعر بحرص المسؤولين ورغبتهم الصادقة في تقديم الحلول، فإنه على استعداد للانتظار ووضع ثقته بقدرتهم على حلها. وبالمثل، لو استطاعت الحكومات حل مشكلة البطالة والفقر، فإن الشعب قد يتغاضى عن الفساد وسوء الإدارة.

أما إذا كان الفرد قد داخله اليأس، وفقد أمله في قدرة الإدارة الحكومية على معالجة المشاكل التي يعاني منها، أو اقتنع بفساد تلك الإدارة وإهمالها، فإن ذلك اليأس والإحباط سيدفعانه إلى الاحتجاج والثورة. ولو استذكرنا حادثة المرحوم محمد البوعزيزي التونسي، وهو الذي مات وهو في سن الشابي لدى وفاته، لوجدنا المزيج المتفجر هذا. فقد كان عاطلاً عن العمل لعدة سنوات بعد تخرجه من الجامعة، وحين حاول كسب رزقه بعمل شريف رفضت البلدية السماح له، وعومل معاملة مزرية لا تليق بكرامة الإنسان. فكان ما كان.