تشهد المملكة نهضة اقتصادية متنامية، أبرز معالمها التوسع الهائل في المشروعات العملاقة، من قبيل المدن الاقتصادية، والصناعية ومشاريع البنى التحتية، والتي توفر فرصا استثمارية مجدية ، ليس للمؤسسات الكبيرة وحسب، بل حتى المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، التي سوف يزيد الطلب على عطاءاتها من قبل المؤسسات المنفذة لتلك المشاريع، وإذا لم تجدها، فإما أن تؤهلها، أو تستوردها من الخارج، مثلها مثل العمالة المؤهلة.

وعلى ضوء العديد من المعطيات فإن الحكومة، ومعها الشركات العملاقة تميلان إلى فكرة تأهيل المؤسسات الوطنية، بدلا من استقدامها، كما تفعل شركة أرامكو السعودية على سبل المثال، إذ جعلت من مشروعاتها ما يشبه المدرسة لتخريج المبدعين، الذين يؤمل منهم أن يكونوا قادة للمشروعات في المستقبل.. من هنا بات من المسائل الهامة جدا وجود (حاضنات الأعمال)، أي تلك التي تحتضن المشروعات الصغيرة، وتؤهلها للقيام بدور ما في خدمة المشروعات العملاقة، ومن ثم تحقيق أهداف خطط التنمية، الرامية لتوطين الاستثمارات، والرقي بالمؤسسات الوطنية لخدمة الاقتصاد الوطني، وتوفير فرص وظيفية للشباب السعودي.


مفهوم الحاضنة

تعد فكرة الحاضنات رغم أهميتها فكرة حديثة في المملكة، وحسب الدكتور نبيل محمد شلبي وهو مدير أول حاضنة تقنية في حرم جامعي بجمهورية مصر العربية، ومدير مركز تنمية المنشآت الصغيرة والمتوسطة بغرفة الشرقية، ومؤلف كتاب "حاضنات الأعمال والتقنية.. رؤية جديدة للتنمية الاقتصادية"، فإن الحاضنة هي :"منظومة اقتصادية متكاملة تعتبر المشروع الصغير وكأنه وليد يحتاج إلى الرعاية الفائقة والاهتمام الشامل لحمايته من المخاطر التي تحيط به وإمداده بالطاقة اللازمة لاستمراريته، وتدفع به تدريجياً ليصبح وليدا قويا قادرا على النماء ومؤهلا بفعاليات وآليات النجاح.. بعد ذلك يستطيع هذا الوليد مغادرة الحاضنة إلى بيئة جديدة يتمتع فيها بالقدرة على النمو والحياة الطبيعية وسط الآخرين. هذه الفكرة أخذت بها العديد من الدول المتقدمة والنامية على حد سواء".

وبنظرة تاريخية ـ حسب الدكتور شلبي ــ فإن ميلاد أول حاضنة في العالم كان في عام 1959م بالولايات المتحدة الأمريكية في بتافيا بمدينة نيويورك عندما انهارت منشأة صناعية رئيسية بالمدينة وعاود أهلها إعادة بناء هذه المنشأة كحاضنة متعددة الأغراض، بعدها اتجهت الولايات الشمالية في أمريكا لإنشاء الحاضنات للتغلب على الأزمة الاقتصادية التي عصفت بهم خلال الفترة 1975ــ 1985 مما أدى إلى نمو عدد الحاضنات من 20 إلى 150 حاضنة تمركز أغلبها بالمناطق الصناعية القديمة. وفي منتصف الثمانينات تنبه الأكاديميون إلى أهمية الحاضنات وتم إدراجها لأول مرة ضمن المؤتمرات وحلقات النقاش، حينها بدا مفهوم الحاضنات ينتشر بسرعة عبر العالم وخاصة بدول الاتحاد الأوروبي، ثم إلى دول جنوب شرق آسيا ووصل عددها اليوم إلى أكثر من 4600 حاضنة عبر العالم.


أنواع الحاضنات

يورد د. شلبي أن هناك العديد من التصنيفات المختلفة لأنواع الحاضنات وذلك حسب الهدف الذي أنشئت من أجله الحاضنة، فهناك (الحاضنة الإقليمية )، وهي التي تخدم منطقة جغرافية معينة بهدف تنميتها وتعمل على استخدام الموارد المحلية من الخامات واستثمار الطاقات الشبابية العاطلة في هذه المنطقة أو خدمة أقليات معينة أو شريحة من المجتمع مثل المرأة في كازاخستان.. و(الحاضنة الدولية) والتي تروج لاستقطاب رأس المال الأجنبي مع عملية نقل التقنية مثل واحة المعرفة في مسقط بسلطنة عمان التي تحتضن مختبر شركة سيمنز الألمانية للاتصالات ومركز الاتصال الخاص بطيران الخليج لمنطقة الشرق الأوسط.. وهناك أيضا (الحاضنة الصناعية) وهي التي تقام داخل منطقة صناعية بعد تحديد احتياجات هذه المنطقة من الصناعات المغذية والخدمات المساندة حيث يتم تبادل المنافع لكل من المصانع الكبيرة والمشروعات الصغيرة المنتسبة للحاضنة مع التركيز على المعرفة و الدعم التقني من المصانع الكبيرة.. و(حاضنة القطاع المحدد) والتي تهدف إلى خدمة قطاع أو نشاط محدد مثل الموهوبين والمخترعين أو البرمجيات أو الصناعات الهندسية على سبيل المثال, وتدار بواسطة خبراء متخصصين بالنشاط المراد التركيز عليه مثل حاضنة بادر في الرياض وحاضنة تقنية المعلومات والاتصالات في فلسطين.. وكذلك (حاضنة التقنية) وفيها تتميز المشروعات الصغيرة داخل الحاضنة بمستوى عال من التقنية مع استثمار تصميمات متقدمة لمنتجات جديدة غير تقليدية مع امتلاكها لمعدات وأجهزة متقدمة، مثل حاضنة التبين في مصر.. أما (الحاضنة البحثية) فهي التي تكون داخل حرم جامعي أو مركز أبحاث لتطوير أفكار وأبحاث وتصميمات أعضاء هيئة التدريس بالإضافة للاستفادة من الورش والمعامل المتوفرة بالجامعة.. وبالنسبة لـ ( الحاضنة المكتبية) فهي التي يتم الاكتفاء فيها بتوفير مكتب وهاتف وفاكس واتصال بالإنترنت بسرعة عالية، ويتولى المنتسب إحضار الحاسب الآلي ويدير مشروعه من خلال هذا العنوان ولفترة مؤقتة، ويتوفر هذا النوع من الحاضنات في دبي وغرفة جدة.. و(حاضنة الأعمال الريفية)، كما جرى في سوريا مؤخرا ، إذ رأت الحكومة أنه وعن طريق قروض صغيرة وتدريب إداري وتقني بسيط ودعم في مجال الترويج والتسويق في المناطق الريفية، تتمكن السيدات من إبراز الابتكار والإبداع الذي يملكنه من خلال أعمالهن.. و( حاضنة الإنترنت) والتي تُعرف من حيث المبدأ أنها مؤسسة تساعد شركات الإنترنت والبرمجيات الناشئة على النمو حتى الوصول لمرحلة النضج .. وأخيرا هناك ( الحاضنة الافتراضية) وهي حاضنة بدون جدران، حيث يتم تقديم خدمات الحاضنة المعتادة باستثناء احتضانها بالعقار الذي يتوفر بالأنواع السابقة، وتعد مراكز تنمية المنشآت الصغيرة والمتوسطة بالغرفة التجارية الصناعية مثالاً جديداً للحاضنات الافتراضية. ويشير شلبي إلى أن الحاضنات ليست بالضرورة عملا تطوعيا، بل هناك بالطبع حاضنات هادفة للربح وخاصة في أمريكا وأوروبا، ويتباين نموذج الحاضنة الهادفة للربح بين كونها عقاراً استثمارياً أو برنامج حاضنة تدار بواسطة شركة ذات رأس مال، وتقوم بتقديم خدمات متكاملة يحصل المستثمر فيها على أرباح من خلال تقديم الخدمة .

وشدد شلبي على أن المنتسب للحاضنة يحصل على العديد من المزايا من أهمها: مكان مستقل يستطيع صاحب الفكرة المنتسب للحاضنة من خلاله الإبداع و الإنتاج وتسويق أفكاره، ودعم مالي في شكل قرض ميسر يستخدم في توفير بعض معدات المشروع المقترح، والاستفادة من التسهيلات المتوفرة بالحاضنة وغير ذلك. ويرى شلبي أن ُسُبل نجاح الحاضنات تتوقف على عدة عوامل أبرزها: انتقاء مشروعات الحاضنة، فكلما كانت معايير الاختيار واضحة ومحددة زادت فرص اجتذاب أفكار تمتلك القدرة على النجاح..والعامل الثاني هو مدير الحاضنة، حيث يؤدي دورا أساسيا في نجاح الحاضنة حيث يجب أن تتوفر فيه بعض المهارات بمجال تخطيط الأعمال والإدارة والتسويق والمحاسبة بالإضافة إلى الوقت الذي يستطيع أن يقضيه مع المشروعات المنتسبة بداخل الحاضنة.. والعامل الثالث هو دعم المجتمع.





الحاضنات والاقتصاد الإنتاجي

قال مدير كلية ينبع الصناعية، والمشرف السابق على برنامج (سند) للحاضنات التابع للهيئة الملكية بالجبيل د. أحمد محمد دبروم إن فكرة الحاضنات وجدت لتنمية مهارات معينة، ودعم أفكار معينة تؤدي في المحصلة إلى توجيه الاقتصاد باتجاه نشاط غير موجود، أي أنها مشاريع لخدمة الإبداع والتجديد في الاقتصاد، كأن يكون الاقتصاد صناعيا، أو تقنيا.. فإقامة الحاضنات ـ بموجب ذلك تساعد على تنمية اقتصاد الأفراد أيضا، فهناك العديد من الأفراد في المجتمع يملكون المهارات، ويحملون الأفكار الجيدة، ولكن تنقصهم أشياء أخرى تمنعهم من تحقيق أحلامهم في وضع تلك الأفكار والمهارات على أرض الواقع على هيئة مشاريع اقتصادية ذات قيمة، فكلنا يعرف أن جميع المشاريع وقبل أن تصبح واقعا على الأرض كانت أحلاما في أدمغة أصحابها، وبعضهم لا يملك خطة، ولا وسيلة تساعده على تنفيذها، من هنا يأتي دور الحاضنة في بلورة تلك الأحلام، وتحويلها إلى مشاريع حقيقية، تحقق قيمة مضافة للاقتصاد الوطني.

وأضاف د. دبروم أن الكثير من المشاريع الناجحة أيضا، والقائمة على الأرض قد تموت في السنة الأولى لبدء نشاطها، لأسباب كثيرة منها على سبيل المثال عدم معرفة صاحب المشروع بالأمور المالية، أو عدم قدرته على الإدارة والمتابعة، فالحاضنة تساعده على تحقيق ذلك كي يتجاوز هذه المعضلة، ويعتمد على نفسه فيما بعد، أي أن الحاضنة تساعد أصحاب المشاريع لمواصلة مشوارهم في خدمة أنفسهم أولا وخدمة الاقتصاد الوطني ثانيا، وتحقق لهم صفة الاستمرارية في النشاط.

ومن فوائد الحاضنات ـ حسب الدكتور دبروم ـ أن ثمة تبادلا للمنافع يتحقق بين مجموعة أو المستفيدين من مشروع الحاضنة، فالذي نعرفه أن الكثير من أصحاب الأعمال قد يتبادلون المعلومات والخبرات، لكن المصالح فيما بينهم قد تكون منتفية أو منعدمة، أو غير موجودة، وإن رغب الجميع في تحققها، لكنهم قد يفتقدون السبل لذلك، لكن الحاضنة قد توفر لهم هذا الغرض، فقد يكون صاحب مشروع ما يفتقر إلى التمويل، أو تأهيل الكوادر أو حتى بعض المواد اللازمة لنشاطه وعمله، لكنه لا يستطيع توفيرها بمفرده أو عن طريق مؤسسته أو أن ظروفه لا تساعده على تحقيق ذلك، في حين يمكنه أن يحصل عليها من زميله المستفيد من خدمات الحاضنة، من خلال تواجدهم في مكان واحد تحت سقف الحاضنة، التي لا تكتفي بالقيام بتحقيق هذا التكامل بين الأطراف المستفيدة من الحاضنة، بل بربط كافة الأطراف ببيوت خبرة أكبر وأوسع في أسواق أكبر أيضا، وتتحقق أهمية هذا الأمر إذا عرفنا أن معظم الصناعات الكبيرة في هذا الوقت تعتمد على الدور التكاملي، فصناعة السيارات مثلا نرى أنفسنا نتعامل مع سيارة معينة تحمل اسم الشركة الفلانية بالماركة التجارية المسجلة، لكن الحقيقة تقول إن الشركة الأم تصنع شيئا كالمحرك مثلا، وتعتمد على شركات أخرى في صناعة أشياء أخرى كالمقاعد وبعض قطع الغيار..لهذا نجد أن بعض الشركات الكبيرة تتبنى المؤسسات الصغيرة وتكون بمثابة الحاضنة لها، و تتحقق من خلال ذلك مصلحة ومنفعة للطرفين، الشركة الكبيرة والصغيرة في آن واحد. وأشار إلى أن فكرة احتضان المشاريع الصغيرة والمتوسطة، هي فكرة هامة إذ إن معظم الأنشطة الاقتصادية، في معظم دول العالم بما فيها المملكة تعتمد بنسبة كبيرة على المنشآت الصغيرة والمتوسطة، والتي ـ كما سبق القول ـ تعد داعما حقيقيا للمشاريع الكبيرة، بالتالي فإن دعمنا ورعايتنا لهذه المشروعات من خلال الحاضنات يحققان دعما لاقتصادنا الوطني، بصورة تجعله اقتصادا صناعيا، أو معرفيا وكلنا يعرف أن الاقتصاد الصناعي هو الأكثر استمرارا من الاقتصاد الخدماتي، الذي يتوقف بمجرد توقف الخدمة، بينما الاقتصاد الصناعي يقدم إنتاجه في أي وقت ويقوم بتسويقه في أي مكان.. والحال نفسه إذا كانت الحاضنة متجهة للتقنية، فإنها تسهم في دعم توجهنا العام نحو الاقتصاد المعرفي، فالحاضنات تدعم أي توجه من هذا القبيل. وتطرق د. دبروم إلى توجه شركة أرامكو السعودية في رعاية المنشآت الصغيرة والمتوسطة، والذي أسهم في دعم العديد من المؤسسات والشركات الوطنية، فالكثير من المواد والمعدات توفرها الشركة من السوق المحلية، عن طريق رعايتها واهتمامها بالشركات المحلية، وتعاملها معها.. وساهمت هذه الرعاية من لدن أرامكو السعودية في إيجاد شركات صناعية وإنشائية وخدماتية تعتمد العنصر المحلي بدرجة عالية. وشدد على أهمية التوعية بضرورة إقامة الحاضنات للحياة الاقتصادية، كونها تسهم في تنمية الاقتصاد، وتساعد على التنوع، وتدعم مبادرات الأفراد، وتسهم في تحقيق أعلى مشاركة لهم في التنمية الاقتصادية وأعرب عن أمله في أن تكون لدينا حاضنات لكل شيء، لكل إبداع ولكل عملية تجديد.. مشيدا بمجهودات الغرف التجارية في دعم هذا التوجه والذي نعتقد بفوائده العديدة في خدمة الاقتصاد الوطني.


تجربة محلية

من جانبه تحدث مدير حاضنة الأعمال بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن خالد محمد الزامل في ورقة عمل بعنوان (حاضنات الأعمال ودورها وكيفية الاستفادة منها) تقدم بها إلى لقاء الصناعيين الثالث الذي أقيم بغرفة الشرقية مؤخرا، وقال إن مفهوم حاضنات الأعمال هو بيئة دعم للمشاريع الاستثمارية الناشئة في بداياتها، لتعزيز فرص نجاح البدايات.. مشيرا الى أن معدل نجاح المشروعات الجديدة داخل الحاضنات يزيد عن 80% ، كما أن المشروعات المقامة داخل حاضنات الأعمال يزيد معدل نموها من 7 إلى 22 ضعف معدلات نمو المشروعات المقامة خارج حاضنات الأعمال.

وذكر الزامل أن القيمة المضافة التي تحققها حاضنة ما تشمل التالي: (التصوّر ووضع الأفكار، ونماذج العمل، والتطوير، والخدمات، ورأس المال ). وتحدث الزامل عن حاضنة الأعمال والتقنية في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن وقال إن رؤية الجامعة للحاضنة هي التميز والإبداع في تسخير الموارد المحلية لدعم المشاريع الناشئة، إذ إن الجامعة تهدف من الحاضنة لـ (تعزيز الرصيد الوطني من الرياديين، وخلق فرص عمل مستحدثة، وتحسين فرص النجاح للمشاريع الاستثمارية الصغيرة، وتحفيز المستثمرين لتبني مشاريع استثمارية واعدة). مشيرا إلى أن الحاضنة لا تهدف للربح لكنها تستخدم مبدأ الاستدامة الذاتية، وتعمل في نطاق تخصصات الجامعة، وتعزز القيمة المضافة للمشاريع بالدعم التنفيذي، وتستجلب التمويل .

وتطرق إلى الخدمات المقدمة من حاضنة المشاريع الاستثمارية وهي المساندة اللوجستية، و التخطيط الاستراتيجي، والدعم التشغيلي، والتواصل والتفاعل مع أصحاب الشأن. وأعرب عن أمله في أن تكون حاضنة جامعة الملك فهد للبترول مصدرا لدعم الاقتصاد الوطني (المعرفي )، و مركزا لصناعة رواد المستقبل ونشر بيئة الريادة في الأعمال، و منطلقا لتعزيز الميزة التنافسية للصناعة الوطنية .